١

أصفار

دوائر، ثقوب، علامات ترقيم، وضعيات حسابية.

العربية، الفارسية، البشتوية، الدرية، الأردو، الشاه مُكهِي. أرقامٌ هنديّة.

الصفر في نظام العد العربي الشرقي – المعروف أيضًا بالعربي الهندي – يشبه النقطة: ٠

علامة عشرية، رتبة خالية، لا أهمية لها ولا شرعيةً قانونية.

يشبه الرقم ٥ في العربية الغربية الصفرَ في العربية الشرقية أو الحرف O: "إذًا فهو مشوِّش للعين غير المدرَّبة – عند النظر إلى المخطوطات القديمة على الإنترنت أو عندما ينقر طفلٌ على أزرار الاتصال عبر الهاتف."

تشكيلات مجدولة.

نقطة، صفر، الخاء – "خواء"، صفر، خالٍ، زيفيروس، زيفيرو – الريح الغربية.

خيبو قديم، مصنوع من الحبال، معقود، أرقام أنديزية (تعود لجماعات الأنديز)، حيث الصفر مجرّد غياب، غياب العقدة في نظام عشري.

(لم أبرع في الرياضيات في صغري ولم أتعرّف إلى الخوارزمي في المدرسة، ولكنني أحببت الرسم وتأمّل الرموز. يضاهي تعلُّم الكتابة من خلال رسم أشكال الأرقام العربية الغربية والعربية الشرقية مسار تطوّر التعلّم في المرحلة الابتدائية بشكل أو بآخر. أو ربّما يضاهي أسلوب التعلّم من خلال التصميم أو الترميز الموضعي في النظام العشري.)

(الخمسات والأصفار خصوصُا. معها تعلّمتُ كتابة الأبجدية العربية. كانت أمّي تعلّمني كيف أصل نقاط الأعشار من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، لا فرق. فهمتُ أهمّية ذلك لاحقًا. كنت أتتبّع النقاط كي أصنع الحروف، كي أقرأ، وكي أكوّن المعنى. وكنت أجد متعة بالغة في كتابة الرقم ٥: ٥. كان ذلك سهلًا. طريقة بسيطة إلى الخارج وإلى الداخل، يزيدها فن الخطّ جاذبية.)

(يستحضر الرقم خمسة "٥" في مخيّلتي مشهد الحركة الدائمة.)

ا. أَلِفٌ. أَ. الأبجد. الألِفُ هو الحرف الأوّل في الأبجدية العربية – "هكذا تعلّمت" – وهو يمثّل الرقم ١، يليه حرف الباء وهو الرقم ٢، والجيم – ٣، والدال – ٤، والهاء – ٥، والواو – ٦، والزاي – ٧، والحاء – ٨، والطاء – ٩، إلخ.. حروف. يليها تمثيل الأعداد التسعة الأولى في خانة العشرات ومن ثمّ المئات: ياء للرقم عشرة، كاف للرقم عشرين، قاف للرقم مائة، ووصولًا إلى الألف. أصفار وأصفار.. "نفر"

(نفر)

إلّا أن الأصفار ليست قديمة العهد. أو لعلها كانت عنصرًا نائبًا في النظام العشري. وكان الأغريق يضعون نقطتين (. .) فوق شكل بيضاوي.

(شكل بيضاوي (أو ربّما قلب؟) تتفرع منه صعودًا قصبة هوائية متّصلة بالخط المستطال الشبيه بالمريء (𓄤)، نفر ومعناه: رمز جميل ومتناغم. كاسمي الملكتين نفرتاري ونفرتيتي. أوّل ما رأيته ظننته العنخ، مفتاح الحياة، الدلتا، النيل بضفتيه الشرقية والغربية وفياضاناته الموسمية.)


٢

أغنية

قصيدة ٣٣.

والعالم مقلوب رأسًا على عقب
مشاعر كثيرة تتعاقب وتستعر
وفي صدري تختمر
تارة يتّقد فيه الحب، وتارّة يستعر نداء الشرف
وأنا هنا، أنا هناك، ألبّي
(..)

(جون غاي، "بولي"، ٧٧٧١)

كانوا يقولون عنه في ما مضى "النهر". كان مجراه صلة الوصل بين إحدى عشرة جماعة متناحرة تتشاركه. كان رافداه الأساسيان نهرين آخرين يلتقيان في بلد واحد. أوّلهما، وهو المصدر الرئيسي للمياه، يتغذّى من المياه الراشحة من بحيرات عدّة تتوسّط إحداها عمق القارّة. خلقت بحيرة أخرى من تلك البحيرات نبعًا جوفيًا تحت سطح الماء هو المسؤول عن قوة التيارات التحتية والحركة التي تدفع المياه إلى المجرى الأساسي. اختبأت تلك البحيرات في أعماق القارة ودفعت رحّالة كثرًا للبحث عنها على امتداد قرون سعيًا للوقوف على منبع النهر ولكن بلا جدوى. أما الرافد الآخر فقد حمل معظم ترسباته البيضاء إلى المياه المفتوحة.

لم يكن الرافد الثاني بطول وسعة الأول، كما لم يكن بنفس قوّته وأهميته، ولكنه كان أغزر في عطاياه. ينبع من المرتفعات إلى الجنوب الشرقي من النهر، ويفيض بانتظام مفتّتًا الصخور وناحتًا الرمل والطين، حاملًا الطمي المتحوّل بفعل الهواء والمياه إلى ترسّبات أكسبت النهر لونه الأزرق الداكن، أو الأسود (سيطلقون عليه فيما بعد النهر الأسود). آلاف من السنين، سعى خلالها الملوك والملكات إلى السيطرة عليه وفرض الضرائب على استخراج الموارد والزراعة عند ضفافه. واستحوذوا على ملكية الأرض المطلقة وتحكّموا بخصوبتها وقسموا مجتمعات القاطنين عند تلك الضفاف وأجبروهم على العمل. كان البعض منهم يُنبت المحاصيل والبعض الآخر يبني العمارات باسم الآلهة. إلا أن البنى التحتية التي صنعها البشر والطوبوغرافيا والقوى التي تحكّمت بمنبع النهر ومصبّه لم تكن وحدها المسؤولة عن تغيير العلاقة مع المياه على امتداد التاريخ. بل إن الصلة بين المياه ومفاهيم التعاون والسلطة هي ما ساهم في صوغ الأنداد في الحرب والسلم، لا الطبيعة الهيدرولوجية للنهر.

كلّ ذلك حدث قبل أن تكلّف الملكة فيكتوريا رسّامي الخرائط بوضع خرائط هندسية لاستعمار الإمبراطورية البريطانية لقارّة أفريقيا. كان ذلك أيضًا قبل استعمار الهند والمشروع الهيدرولوجي الذي حوّل مسار النيل إلى الأبد. إلى الأبد – وقبل أن يصبح القطن المصري "قطنًا مصريًا ١٠٠٪" في تعبير عن رغبة بالية أُعيد إحياؤها لاحقًا عن طريق صيحات الموضة العصرية. قام نفر ببناء السدود على النيل. امتدّت تلك السدود إلى مصر العليا متجاوزة حوض فيكتوريا في السودان والذي تتوسّطه مدينة الخرطوم وصولًا إلى الرافدين النيل الأبيض سريع الجريان وموسمي الفيضان والنيل الأزرق المُحمَّل بالطمي.

وكان ذلك أيضًا قبل إنشاء مشروع قناة السويس بعهد طويل وبداية صراع المستعمِرين على مستعمَرات بعضهم البعض – البريطانيين ضد الفرنسيين وسباقهما على عبور البوابات إلى البحر المتوسّط ليلًا. تصفيق حادّ ولا شهود.

علامة منفردة. ليست عنصرًا نائبًا مكوّنًا من أجزاء تعكس دواخل الجسم. الصفر، موطن الأحاسيس، أتحدّث عن القلب، الحسن والقبيح، المَحسوس والمُراد. تعلّمت رسم رمز هيروغليفي ثلاثي الأضلاع، (𓄤)، آلة عود أو قصبة هوائية في آخرها شكل بيضاوي يمثّل القلب ويليه المريء. أستنشق النفس.

وكان ذلك بعدما "أعيدت قراءة الأوبرا كنمط مسرحي يتقدّم فيه مبدأ التصويت الأنثوي بين الحين والآخر على مبدأ العقلانية الذكري رغم ميسوجينية النص الأوبرالي." (كافاريرو، الجسم الصوتي من موسوعة فلسفية عن الجسد، ٢٠١٢).


٣

"في يوم من الأيام، ابتكر المرء الصفر"

الكتابة عمل وحداني. لا سبيل لسماع دفق الأصوات إلّا من خلال طبيعتها العابرة. تسافر وتتردّد في فضاءات سماعية تدنيها من بعضها البعض وتصل الأجساد التي تؤدّيها. يردّد الصفر ذاته (خصوصًا عند درجات حرارة منخفضة). ويخلق صوتًا غير مضغوط كسواه.

عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، سافر والداي إلى نوفوسيبيرسك. كانا قد أنجزا لتوّهما ترجمة مجموعة قصائد لفيسوافا شيمبورسكا. أذكر قلقي عليهما من البرد مع أن الفصل كان صيفًا. ترجما أكثر من خمسين قصيدة في ربيع ذلك العام، وجلّ ما أتذكّره هو صوتاهما المتسلّلان مع رائحة الدخان والقهوة من تحت باب مكتبهما. أذكر قصيدة واحدة بالذات، لا نصًّا بل تلاوة، بصوت أمي وهي تلقيها على أبي، شارحة بعض الكلمات البولندية كي يترجمها إلى العربية. كانا يمضيان الساعات معتكفين في مكتبهما، يحلّلان أدقّ تفاصيل النص، يقسّمان الكلمات إلى مقاطع والمقاطع إلى حروف إلى أن يخرج المعنى من التوليفات ذات المقاطع الخمس. كنت أسمعها كالآتي:

(...)
Był so-­bie raz. Wy-­my­ślił zero.
W kra­ju nie-­pew­nym. Pod gwiaz­dą
dziś może ciem­ną. Po­-mię­dzy da­ta­mi,
na któ­re któż przy­się­gnie. Bez imie­nia
na­wet spor­ne­go. Nie po­-zo­s-ta­-wia-­jąc
po­ni­żej swe­go zera żad­nej my­śli zło­tej
o ży­ciu, któ­re jest jak. Ani le­gen­dy,
że dnia pew­ne­go do ze­rwa­nej róży
zero do­pi­sał i zwią­zał ją w bu­kiet.
Że kie­dy miał umie­rać, od­je­chał w pu­sty­nię
na stu­-gar-b­nym wiel­błą­dzie.

عن أنه غفا.
في ظل نخلة الأوّلين. عن أنه سيصحو
عندما ينتهي عدّ كلّ شي،
حتى آخر ذرّة رمل. يا له من رجل
يتسلل من الشقّ بين الحقيقة والخيال،
يغافلنا. مقاومًا
كلّ مصيرٍ. يخلع عنه
كل هيئة أعطيها له.
قد أُطبق عليه الصمت، لم يترك صوته ندبة.

(فيسوافا شيمبورسكا، نقلتها المترجِمة إلى العربية عن الترجمة الإنكليزية ليوآنا تريتشياك، ٩٩٩١)

كان ثمّة شيء تحرّري في تلك العملية وفي طريقتهما في لفظ الحروف O وÓ وU المضمومة والواو وL وŁ. أتذكّر صوتيهما كما لو أنهما يتكلّمان الآن في الغرفة المجاورة، ذاكرةٌ ترتبط بالحركة المادية للصوت-الذكرى. تمامًا كالأصفار (الباردة) يتعايش هذان الصوتان في فضاء معرفي مشتَرك ينحصر في فعل الترجمة وبناء المعنى في لغة أخرى مختلفة. كان جسدا-صوتا والديّ متلازمين، وبالرغم من اختلاف لغتيهما فقد ركّزا على الإيقاع وتعمّدا تجريد الكلمات من قوامها اللغوي من خلال الترجمة. تحوّلت القصائد الأصلية بين أيديهما وتطوّرت لتعبّر عن المعاني من خلال الماديّات (غير) المنطوقة التي تشاركاها في غرفة الترجمة. اللغة والصوت ينبثقان معًا من خلال مفردات النطق. والسمع والنطق المتلازمان والمتخفّفان من الرقابة يسكنان جسدين في حركة دائمة. وقد لازما هذا الثابت الجسدي، "يقبعان هناك دائمًا، وهنا في الوقت عينه، يحدّد هذا التجرّد نوع الاجتماع الذي ينتميان إليه." (باتلر، ylbmessA fo yroehT evitamrofreP a drawoT setoN، ٥١٠٢).

غيابهما بات يشبه الأفق،

الأصفار تكتب ذاتها.

Photo credit: Andriej Murzakow, Theatre Surgut, 2010.

ياسمينا متولي فنّانة وصانعة أفلام تقيم بين القاهرة وبرلين، وهي عضوة في تعاونية مُصِرّين لتصوير الفيديو والتوثيق. تعمل في صناعة الفيديو والأفلام، كما عادت مؤخّرًا إلى الرسم. يرتكز عملها على الأداء والمسرح والسينما، ويتمحور حول السيرورات في الممارسات الفنية التي تتّسم بوظيفة اجتماعية هدفها خلق التوتّر بين المشاركين/ات والجمهور.


Cover image source: Frances W. Pritchett, "The Abjad System," Columbia University.

An earlier version of this text was conceived as a response to a collective reading initiated by Katrin Mayer as part of the Berlin Artistic Research Grant Programme


This text was commissioned and translated with the generous support of Goethe-Institut Lebanon.