تعريب النص الإنكليزي: ديما حمادة ومحمد عبد الله

Image Credit: Marie Rouge

لو شاء القدر أن ينجو ميشال فوكو من مرض الإيدز في العام 1984 وأن يبقى على قيد الحياة إلى حين اكتشاف العلاج بمضادات الڤيروسات القهقريّة، لكان اليوم في الثالثة والتسعين من العمر. أتراه كان ليرضى لنفسه أن يُحتَجز في شقّته في شارع ڤوجيرار في باريس؟ لقد ترك لنا أول فيلسوف مؤرّخ يموت من مضاعفات الإصابة بڤيروس نقص المناعة بعضًا من أبرز الأدوات الفعّالة في تقييم التدابير السياسيّة لمكافحة الجائحة، وهي أفكار باتت اليوم أشبه بعدّة وقائيّة معرفيّة وسط مناخ من التضليل المستفحل والمعدي.

إنّ أهمّ ما أخذناه عن فوكو هو مبدأ أنّ الغرض المحوريّ من مجمل السياسة هو الجسد الحيّ الفاني بطبيعة الحال: فلا سياسة إلّا سياسة الجسد. بيد أن الجسد عند فوكو ليس كائنًا بيولوجيًّا متقدِّمًا على فعل السلطة. بل إن المهمّة الفعليّة للفعل السياسي هي صناعة الجسد وتشغيله وتعيين أنماط إنتاجه وتكاثره، واستشراف أنماط الخطاب التي يصوغ بها سرديّته لذاته حتى يلفظ الضمير "أنا". يمكن فهم مجمل نتاج فوكو الفكريّ على أنّه تحليل تاريخيّ لمختلف تقنيات السلطة في إدارة حياة مجموعة من السكّان وموتهم. بين العامين 1975 و1976، إبّان نشره لمؤلّفي Surveiller et punir (المراقبة والمعاقبة) والمجلّد الأوّل من Histoire de la sexualité (تاريخ الجنسانيّة)، استعمل فوكو تعبير "السياسة الحيويّة" (biopolitics) في إشارته إلى العلاقة التي تنشئها السلطة مع الجسد المجتمعي في الحداثة. وقد عرض في مؤلفاته للتحوّل ممّا أسماه مجتمع السيادة، حيث السيادة هي سلطة التحكّم في شعائريّة الموت، إلى "مجتمع الانضباط" الذي تدير فيه السلطة حياة الناس وتسعى لإطالة أعمارها كواحد من أركان تحقيق المصلحة الوطنية. في نظر فوكو، تنتشر تقنيات "السياسة الحيويّة" كشبكة نفوذ تتجاوز حيّز التشريع لتغدو قوّة أفقيّة مجسّيّة تمتدّ إلى مختلف نواحي التجربة المعاشة وتخترق جسد كلّ فرد.

إبان أزمة الإيدز وفي أعقابها، عمد العديد من الكتّاب إلى التوسّع في فرضيّات فوكو وأخذها في مناحٍ أكثر جذريّة عن طريق استقراء العلاقة بين الحصانة/المناعة والسياسة الحيوية. فقد حلّل الفيلسوف الإيطالي روبرتو إسپوسيتو الصلات بين المفهوم السياسي لتعبير الجماعة community ومفهوم المناعة immunity في علم الأوبئة. وتشترك الكلمتان في اشتقاقهما من الجذر اللاتيني munus ومعناه الفريضة (أي الضريبة أو الإتاوة أو المنحة) التي يتحتّم على الفرد أداؤها كي يكون جزءًا من الجماعة. وتدمج مفردة الجماعة community الشقّين: cum (المعيّة) وmunus، وتفيد مجموعة من البشر يربطهم قانون مشترك وفريضة متبادلة. أما الاسم immunitas فهو اسم منفيّ أي ضدّ immunity. المناعة إذًا في الشريعة الرومانيّة هي امتياز وإعفاء من أداء فريضة الجماعة. ولما كان المُحصّن هو المعفيّ من الفريضة، فإن مفهوم de-munized يفيد من جُرّد من جميع الامتيازات الممنوحة له من قبل الجماعة لكونه يمثّل تهديداً لها.

يشدّد إسپوسيتو على أن مُجمَل السياسة الحيوية "مناعيّ" بطبيعته: تنطوي السياسة الحيوية على تراتبيّة يتربّع فيها ذو المناعة على القمّة ويقبع المُجرّد من أيّ نوع من الحماية المناعيّة في القاع. هنا مفارقة السياسة الحيوية: إذ ينطوي كل صنيع وقائي على تعريف "مناعي" للمجتمع تسبغ الجماعة بموجبه على نفسها صلاحيّة التضحية بفئة من الناس بهدف الحفاظ على سيادتها. وما "حال الاستثناء" (state of exception) إلا تطبيع لتلك المفارقة المرعبة.

اعتباراً من القرن التاسع عشر ومع اكتشاف أول مصل للوقاية من الجُدري وبدء التجارب الميكروحيويّة التي أجراها لوي پاستور وروبرت كوخ، غادر مفهوم المناعة/الحصانة نطاق التشريع واكتسب معناه الطبّي. وكرّست الديموقراطيات الليبرالية والأبوية-الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر نموذج الفرد في العصر الحديث لا باعتباره فاعلاً اقتصاديًّا حرًّا فحسب، أي ذكراً أبيض البشرة غيريّ الجنس، وإنما أيضًا باعتباره جسدًا مُحصّنًا مستقلًّا بشكل تامّ عن المجتمع ومتحرّرًا من أي شكل من الالتزام حياله. إن نهج ألمانيا النازيّة في وصم فئات من الشعب (اليهود والغجر والمثليّين والمعوّقين) كأجساد تهدّد سيادة الجماعة الآريّة يُعدّ، بحسب إسپوسيتو، مثالًا على مخاطر السياسة المناعيّة. بيد أن انهيار النازيّة لم يبدّد هذا المفهوم المناعي عن المجتمع، بل على العكس، ازدهر في الولايات المتحدة وأوروبا حيث وُظّف لشرعنة سياسات الإدارة المستخدمة للسيطرة على الأقليات العرقيّة وجماعات المهاجرين. وهذه هي الروح المناعية عينها التي تحدّد معالم أنظمة حماية الحدود الراهنة وتدعم استراتيجيّات العسكرة التي تنتهجها وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك في الولايات المتّحدة ICE)) على الحدود الأميركيّة المكسيكيّة والوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (Frontex) في الدفاع عن منطقة شنغن.

في كتابها الصادر في العام 1994 بعنوان Flexible Bodies (الأجساد الطيّعة)، حلّلت عالمة الأنثروبولوجيا إميلي مارتن العلاقة بين المناعة والسياسة في الثقافة الأميركية إبان أزمتي انتشار وباء شلل الأطفال والإيدز. تخبرنا مارتن أن مناعة الجسد ليست حقيقة حيويّة مستقلّة أو معزولة عن المتغيّرات الثقافية والسياسية، بل إنّ ما نسمّيه "مناعةً" لا يتشكّل إلّا وفق معايير مجتمعيّة وسياسيّة تنتج السيادة أو الإقصاء، الحماية أو الوصم، الحياة أو الموت.

وبناء على ما سبق، فإنّ التأمّل في تاريخ الجائحات من المنظور الذي يقدّمه فوكو
وإسپوسيتو ومارتن يفضي بنا إلى الآتي: قلْ لي علام يؤسّس مجتمعك سيادته السياسيّة، أقل لك ما نوع الوباء الذي سيصيبه وكيف سيكافحه. فعلى نطاق الجسد الفرد، تجسّد الأمراض المختلفة هواجس السياسة الحيوية والسياسة المَواتيّة (necropolitics) في أي حقبة من الحقب. وبحسب تعبير فوكو، يُحدث الوباء تطرّفًا وتغييرًا في تقنيّات السياسة الحيوية من خلال تجسيدها على نطاق جسد الفرد. في الوقت عينه، يقدّم الوباء ذريعة لبسط نطاق التدابير السياسيّة المناعيّة على الناس كافّة بعد أن كانت حتى تلك اللحظة تطبّق عنوة على من يُعتبرون من الغرباء سواء في الداخل أو على التخوم.

ترسم تدابير إدارة الأوبئة صورة معيّنًة للجماعة كما تكشف أوهام المجتمع المناعيّة وتعرّي حلم السيادة بامتلاك الجبروت في إزاء واقعها العنين. وإن كانت فرضيّات فوكو وإسپوسيتو ومارتن تنطلق من اعتبار الأوبئة والجائحات إنشاءات مجتمع-سياسيّة لا ظواهر حيويّة صرفة، إلّا أنّها براء من سخف نظريات المؤامرة عن ڤيروسات مُخلّقة في المختبرات تمهّد لانتزاع السلطة المطلقة. بالعكس، تتيح لنا تلك الفرضيّات إدراك كيفيّة توليد الڤيروس وتجسيده وتعميمه وتكثيفه (من الجسد الواحد إلى مجمل السكّان) للأنماط المهيمنة من الإدارة الحيوية والمَواتيّة والتي كانت تٌطبّق سابقًا، أي قبل حال الاستثناء، على الأقليات الجنسيّة والعرقية والنازحة.

فلنأخذ مرض الزُهرِي مثالًا. بلغ الوباء مدينة ناپولي للمرة الأولى في العام 1494. كان المشروع الاستعماري الأوروبي في باكورته بل يجوز القول إنّ المرض ساهم، بشكل أو بآخر، في شنّ التدمير الاستعماري والتمهيد للسياسات العرقيّة. وقد أطلق الإنكليز عليه اسم "المرض الفرنسي" بينما سمّاه الفرنسيون "المرض الناپوليّ"، وظنّ أهل ناپولي أن مصدره هو أميركا معتقدين بأنه قد وصل إلى أوروبا مع المستعمرين العائدين الذين التقطوا العدوى من "الهنود". والحقيقة، بطبيعة الحال، هي العكس. فتبادل المُمْرِضات (pathogens) لم يكن متكافئًا بحال وقد أهلكت الجراثيم الأوروبية العالم الجديد. غير أنّ الڤيروس الذي لا هو حيّ ولا ميت ولا هو كائن ولا آلة، كما يصفه دريدا، هو دائمًا الغريب ، الآخر المقبل من مكان ثانٍ. في الفترة من القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر، أنزل مرض الزُهري المنقول جنسيًّا في الأبدان أنماط القمع والإقصاء التي سادت عصر الحداثة: هاجس النقاء العرقي والإيعاز ضد ما يسمّى بالزواج المختلط بين أناس من أعراق أو طبقات مجتمعيّة مغايرة وفرض القيود على الممارسات الجنسية. وفي صميم هذا التقاطع بين النموذجين المجتمعيّ والمناعيّ، تكوّن الجسد السيّد الذي اصطنعه مرض الزُهري جسدًا برجوازيًّا أبيض البشرة مكبّلًا جنسيًّا داخل قوقعة الحياة الزوجية ومكرّسًا لتكاثر الأمّة. وهكذا، أمست البغيّ تجسيدًا حيًّا تتكثّف في ثناياه جميع المعاني السياسيّة الوضيعة في عصر وباء الزُهري: فهي امرأة عاملة على الأغلب من عرق مغاير وهي جسد ناشز عن نواميس المنزل والزواج حوّلت جنسانيتها إلى وسيلة للإنتاج ما يجعل عاملة الجنس محطّا للأنظار، مرهونة للسلطة، موصومة بالعار كبؤرة تفشّي العدوى. وبحلول أواخر القرن الثامن عشر، وضع مفكّرون اجتماعيون مثل رِستيف دو لا بريتون تصوّرًا للقضاء على وباء الزُهري يقضي بحبس البغايا في بيوت دعارة مؤمّمة حيث تقدّم النساء الخدمات الجنسيّة على سبيل تأديتهنّ لدورهن الوطني. وكما في كل جائحة، يخرج مرشدون معروفون ليطرحوا حلولًا سحريّة كهذه ترضي النظام المهيمن.

بيد أن السيطرة على تفشّي مرض الزُهري لم تنجح بسبب حظر ممارسة الدعارة أو احتجاز عاملات الجنس في بيوت البغاء، بل على العكس: لم يسفر حبسهن عن شيء غير جعلهنّ أشدّ عرضة لخطر العدوى. وفي النهاية، كان اكتشاف البنسلين في العام 1928 السبب في الاقتراب من القضاء على الزُهري صاحبته سلسلة من التحوّلات العميقة التي كان لها الأثر في التحرّر الجنسي والبدنيّ خلال العشرينيّات، منها صعود حركات التحرر من الاستعمار ونيل النساء البيض لحق الاقتراع وإنهاء تجريم المثليّة واللبرلة النسبيّة لأخلاقيّات منظومة الزواج غيري الجنس.

وفي أواخر القرن العشرين، مثّل مرض الإيدز للمجتمع النيوليبرالي المتّسم بالمعيارية الغيريّة ما مثّله الزُهري بالنسبة إلى الرأسماليّة الاستعماريّة في فجر الحداثة. وقد ظهرت التقارير الرسميّة الأولى عن المرض في العام 1981، وكان الناشطون حينها قد نجحوا فيه في حشد الزخم الكافي لانتشال المثليّة الجنسيّة من مجال الأمراض النفسية. ففي العام 1973 وبعد عقود من "أمرضتها" كذريعة من أجل ممارسة التمييز والاضطهاد، أزيلت المثليّة الجنسيّة من لائحة جمعية أطبّاء النفس الأميركيّة للاضطرابات الذهنيّة. وأصابت الموجة الأولى من الوباء على نحو غير متناسب فئة سمّيت حينها بالميمات الأربعة: المثليون والمهاجرون من هاييتي والمنعورون (المصابون بالهيموفيليا) ومتعاطو الهيروين [1]. ولاحقًا أُلحقت بائعات الهوى بهذه القائمة. وهكذا، أعاد الإيدز بناء وتشكيل مصفوفة الأجساد المرتهنة للسيطرة الاستعماريّة كما دفع إلى تحديث تقنيات الرقابة الجنسانيّة التي كان الزُهري قد صاغها من قبل. وكما حدث مع الدعوات لمنع ممارسة الدعارة إبّان أزمة الزُهري، لم يسفر اضطهاد المثليّين إلا عن ارتفاع معدّلات الوفيّات بالمرض. ويرتبط نموذج الجماعة/المناعة الخاص بحقبة الإيدز بفانتازيا سيادة الذكر الجنسيّة بمعنى الحق اللامشروط والمطلق في الإيلاج، في حين يُعتبر الجسد المولوج (في الممارسات المثليّة أو الأنثويّة أو الدُبُريّة) منقوص السيادة (de-munized). أمّا في واقع الأمر، فإنّ تحوّل الإيدز تدريجيًّا إلى مرض مزمن لم يأتِ إلّا بإنهاء أمرضة المثليّة الجنسيّة وتمكين دول الجنوب "عقاقيريًّا" وتحرر المرأة جنسيًّا ما مكّنها من رفض ممارسة الجنس من دون الواقي الذَكَري، وتعميم حق الحصول على العلاج بمضادات الڤيروسات القهقريّة بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية ومقدار الخضوع للتمييز العرقيّ.

قبل أن يظهر ڤيروس كوڤيد-19 بفترة طويلة، بدأنا نشهد عمليّة طفرة كوكبيّة شملت تحوّلات مجتمعيّة وسياسيّة لا تقل ضخامة عن تلك التي أفرزتها الحداثة المبكرة. ونحن الآن لا نزال في مخاض هذه التحوّلات من مجتمع الكتابة إلى المجتمع السيبراني الشفهي، ومن الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد اللامادي، ومن نمط السيطرة التأديبيّة والعمرانيّة إلى أنماط من السيطرة تعتمد على الأعضاء البديلة المجهريّة والوسائط السيبرانيّة. في كتابات أخرى، كنت قد استخدمت تعبير البورنوغرافيا العقاقيريّة pharmacopornographic للدلالة على هذا النمط من إدارة الجسد وإنتاجه ولوصف التقنيات السياسيّة التي تفرز الذاتيّة الجنسيّة في إطار النسق الجديد من السلطة والمعرفة. فإخضاعنا للسلطة لم يعد يتمّ بتنقيل الجسد بين المؤسسات التأديبية من المدرسة إلى المصنع ومرورًا بالثكنة والمشفى وغيرهما فحسب، بل باتّباع حزمة من التقنيّات الحيويّة الجزيئيّة التي تدخل إلى الجسد عن طريق البدلات المجهريّة، وتقنيات المراقبة الرقميّة التي تفوق بدقّتها أي تصوّر تخيّله جيل دولوز في معرض تنبّؤاته الشهيرة حول مجتمع الهيمنة. وفي النطاق الجنسانيّ، نجد في التغييرات التي تحدثها العقاقير في الوعي والسلوك والاستهلاك السائد لمضادّات الاكتئاب والقلق وعولمة أقراص منع الحمل فضلًا عن العلاجات بمضادات الڤيروسات القهقريّة وعلاجات الإيدز الوقائيّة وأقراص الڤياغرا، بعضاً من المؤشّرات على الإدارة التقنو-حيوية التي تتضافر بدورها مع أنماط جديدة من الإدارة السيميا-تقنيّة المترافقة مع صعود دولة الرقابة ومع توسّع الشبكة عالميًّا حتى غزت جميع أوجه الحياة. وقد استخدمتُ تعبير "البورنوغرافيا" نظرًا لأن تقنيات الإدارة المذكورة لم تَعُد تؤدّي وظيفتها من خلال كبت الجنسانيّة وحظرها، وإنما عبر الحضّ على الاستهلاك وعبر الإنتاج المستمرّ للمتعة المضبوطة والخاضعة للقياس الكمّي. كلما استهلكنا أكثر كلما تحسّنت صحّتنا وازداد معها مقدار التحكّم في مصائرنا. وقد تساهم هذه الطفرة الحاليّة بالنتيجة في بلورة الانتقال بالمجتمع من الأنثروبوسين حيث تسوّغ فئة ضئيلة من الجماعة الإنسانيّة الكوكبيّة لنفسها ممارسة سياسة السلب التنقيبيّ لموارد الكوكب إلى مجتمع قادر على إعادة توزيع الطاقة والسيادة. إنّ السؤال الحاسم للجدل إبان الأزمة الراهنة وفي أعقابها هو: من هي الأرواح التي نريد إنقاذها؟ إنّ هذه الطفرة وهذا التحوّل في أنماط فهم فكرة الجماعة (بمعناها الشامل للكوكب بأسره إذ لم يعد من سبيل للفصل) والمناعة، هما السياق الذي ينشط فيه الڤيروس وتتّخذ الاستراتيجيّات السياسيّة لمكافحته شكلها المستقبليّ.

المناعة وسياسات الحدود

اتّسمت السياسات الحكوميّة، على الأقل منذ ما بعد سقوط برجيّ مركز التجارة العالمي، بإعادة تعريف الدولة الأمّة في إطار النيو-استعماريّة والهوية والرجوع إلى مبدأ الالتزام بالحدود المادية (بعد حقبة النيوليبرالية الريغانيّة-الثاتشريّة التي شدّدت على الحركة غير المقيّدة والتجارة الحرّة) كشرط رئيسي لاستعادة الولاء الوطني والسيادة السياسيّة. وقد تزعّمت كل من إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا وتركيا والسوق الأوروبيّة المشتركة مشروع صياغة حدود جديدة خاضعة، لأوّل مرّة منذ سقوط جدار برلين المعزّز بالقنّاصة، للحراسة والدفاع لا بأساليب السياسة الحيوية فحسب بل وبأجهزة السياسة المَواتيّة التي تعتمد على تقنيات الإقصاء والموت.

لقد ارتضت مجتمعات أوروبا وأميركا الشمالية أن تبني ذواتها كمجتمعات منيعة مُحكَمة من جهتيّ الشرق والجنوب على الرغم من أن هاتين المنطقتين تشكّلان المصدر الرئيسي للوقود الأحفوري والسلع الاستهلاكية. يُعدّ صوغ هذا النمط من المناعة السياسية خير مثال على الحوكمة السيادويّة الجديدة: أغلقت أوروبا حدودها عند اليونان وإيطاليا وإسبانيا في العام 2015 وشيّدت مراكز احتجاز مفتوحة حول البحر المتوسط هي الأضخم في تاريخها. والمفارقة أنّ خراب أوروبا قد بدأ، وهذا ما نشهده اليوم، مع إرساء فكرة المجتمع الأوروبي المنيع المفتوح على داخله ومحكم الإغلاق في وجه الأجانب والنازحين.

إن ما نشهد اليوم تجربته على الصعيد الدولي عبر تدابير كوڤيد-19 هو مقاربة جديدة لمفهوم السيادة. فقد أصبح الجسد اليوم، جسدك، بما هو فضاء العيش وشبكة القوّة ومركز إنتاج الطاقة واستهلاكها، حيّزًا جديدًا للتعبيرعن سياسات الحدود الصارمة التي وضعناها واختبرناها لسنوات على "الآخرين" في شكل تدابير احتوائيّة للوباء وحرب نشنّها على الڤيروس. هكذا، انتقلت حدود السياسة المَواتيّة من سواحل اليونان إلى عتبات منازلكم. لسبوس تبدأ من باب البيت. ولا تنفك الحدود تضيّق قبضتها من حولكم وتقلّص المسافة أكثر فأكثر بينكم وبين أجسادكم. ها هي كاليه تنفجر في وجوهكم. الكمامة هي حدودكم الجديدة. حتّى الهواء الذي تتنفسونه لا ينبغي أن يشارككم فيه أحد. الأدمة (تحت الجلد) هي حدودكم الجديدة: جلدكم هو لامبيدوسا الجديدة. لقد اعتبرنا النازحين واللاجئين لسنوات وباءً يجتاح المجتمع فعزلناهم في مراكز احتجاز معلّقين من دون أي حقوق ومن دون جنسيّة، في ردهات انتظار أبديّة. وها نحن اليوم قيد الاحتجاز في بيوتنا.

السياسة الحيوية في عصر البورنوغرافيا العقاقيريّة

تشكّل موجات الأوبئة، في ظلّ إعلان حال الاستثناء، حقول اختبار ممتازة للابتكار الاجتماعي كونها فرصة لعملية إعادة نَظم واسعة النطاق للإجراءات المختصّة بالجسد ولتقنيات السلطة. حلّل فوكو التحوّل من النمط المتّبع في تدابير السيطرة على الجذام إلى نمط تدابير مكافحة الطاعون باعتبارها الصيرورة التي أسفرت عن اعتماد التقنيّات التأديبيّة النابعة من التصوّر الحداثي الفراغيّ للسلطة. ففي حين تمّ التعامل مع المجذومين من منطلق السياسة المَواتيّة حصرًا، أي الحُكم عليهم بالموت المجتمعي والنفي إلى خارج الجماعة، شملت مساعي الحداثة المبكرة لمكافحة الطاعون تدابير تأديبيّة شملت تقسيم المدينة وعزلها وفرض الحجر على كل مواطن في كل منزل.

أمّا اليوم وفي ظلّ جائحة كوڤيد-19، تندرج استراتيجيات الدول في مكافحة الوباء تحت نمطين مختلفين تمامًا من تقنيات السياسة الحيوية. أوّلهما يتمثّل في سياسة إخضاع جميع المواطنين بلا استثناء للحجر الصحيّ التامّ كما شهدنا في ووهان في الصين ثم في كل من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا ولاحقًا بريطانيا والولايات المتحدة، ويشمل اتّخاذ إجراءات تأديب صارمة لا تختلف في غالبها عن مقاربات القرن الثامن عشر التي وثّقها فوكو. تقسيم صارم للجغرافيا وإغلاق مدن وعزل أحياء سكنيّة وحظر مغادرة مناطق بعينها. الكلّ ملزم بالبقاء في المنزل. وإن كان لا بدّ من مغادرة المنزل، يسمح بالخروج لشخص واحد في المشوار الواحد فقط على أن يتجنّب اللقاءَ مع الآخرين. أما النظرة المحدّقة (gaze) فنفّاذة: الكلُ حبيس قفصه، والكلُ يحدّق من نافذته. لا أحد يجوب الطرقات سوى مشرفي البلديّة والفرق الطبّية ورجال الشرطة، يتنقّلون بين الأجساد المصابة ومن جثّة إلى أخرى: إنهم "الغربان" و"الجلّادون" والتفريط بهم ممكن. هؤلاء هم أبناء الطبقة العاملة من الأقليات العرقيّة الذين يحملون المرضى ويدفنون الموتى ويُنظِّفون ويقومون بشتّى الأشغال الوضيعة. المفاجئ في إعادة قراءة الفصل المتعلّق بتدابير الطاعون في أوروبا في «المراقبة والمعاقبة» هو الاكتشاف بأنّ سياسات الحدود الفرنسية المعنيّة بمواجهة الأوبئة لم تتغير كثيرًا منذ قرون. وما نشهده هنا من سيادة لمنطق الاحتماء بالحواجز العمرانيّة يتمثّل لا في العزل المنزلي فحسب، وإنما بمعالجة الإصابات في عنابر الحجر الصحي المعزولة داخل المستشفيات. لكنّ هذه التقنيات لم تثبت تمام فعّاليتها.

أما الاستراتيجية الثانية المطبّقة في سنغافورة وكوريا الجنوبيّة وتايوان وهونغ كونغ واليابان وغيرهم من البلدان، فتشمل التحوّل عن تقنيات السلطة التأديبيّة والعمرانيّة الحديثة إلى تقنيات البورنوغرافيا العقاقيريّة. تعوّل هذه المنظومة على اكتشاف الإصابات الفرديّة من خلال مضاعفة الفحوص المخبريّة وتعزيز الرقابة الرقميّة المستمرّة للمرضى عبر أجهزتهم المحمولة. تتحوّل أجهزة الهاتف الخلوي وبطاقات الائتمان هنا إلى أجهزة للرقابة تتيح تعقّباً دقيقًا لأجساد الأفراد التي يشتبه بأنّها حاملة للڤيروس. لسنا بحاجة إلى أساور بيومترية، الهاتف الجوال يغني عنها، فهو لا يفارقنا حتى في مرقدنا. يفيد نظام التموضع العالمي (جي بي إس) الخاص بالهاتف الشرطة بتحرّكات الأجساد المشتبه بها. ويتمّ رصد درجة حرارة الفرد وغيرها من المؤشرات الحيويّة فورًا عبر أجهزة الاستشعارالرقميّة لعين الاستبداد السيبرانيّ الساهرة. المجتمع هنا هو جماعة المستخدمين، أمّا السيادة فهي فوق كلّ شيء الهيمنة الرقميّة وإدارة البيانات الضخمة. في شهر نيسان/أبريل الماضي، وقّعت شركتا آبل وغوغل اتفاقاً لإطلاق تطبيق تعقّب عبر الهواتف الذكيّة لمكافحة كوڤيد-19. يعمل هذا التطبيق على إخطار السلطات الصحيّة في حال جاءت نتيجة فحص المستخدم إيجابيّة فتقوم بدورها بتنبيه كل من تواجدت هواتفهم على مقربة من هاتف المصاب خلال الأيام الأربعة عشر السابقة. بيد أن تقنيات المناعة السياسية هذه ليست بالجديدة، كما أنّ استخدامها السابق لم يقتصر على مجال البحوث والقبض على المصنّفين على لوائح الإرهاب. منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، شرّعت تايوان على سبيل المثال الاطّلاع على كافة أنشطة تطبيقات التعارف الجنسي بذريعة مكافحة انتشار الإيدز والدعارة عبر الإنترنت. وقد أضفى كوڤيد-19 المزيد من الشرعيّة على ممارسة الحكومات للرقابة الحيويّة والتحكّم الرقمي وتوحيد معاييرها وجعلها "ضروريّة" للإبقاء على الإحساس بالمناعة وتعزيز الصحة القوميّة. ومع ذلك، فإن الحكومات التي بالغت في تطبيق إجراءات الرقابة الرقميّة لم تفطن في المقابل إلى ضرورة حظر الإتجار بالحيوانات البريّة واستهلاكها كما لم تقدّم إجراءات للحدّ من الإنتاج الصناعي للطيور والثدييات، أي المصادر الأساسيّة لانتشار الأمراض حيوانيّة المنشأ المنتقلة للبشر بما فيها سارس كوڤ-2، ولا لتقليص انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون. ما نحن بصدده اليوم ليس تعزيز مناعة الجسد الاجتماعي وإنما مزيد من التساهل والرضوخ للتحكّم السيبراني من قبل الدولة والشركات العالميّة.

تؤدّي التدابير السياسية لإدارة جائحة كوڤيد-19 من حيث هي نمط من أنماط إدارة الحياة والموت إلى بلورة ذات جديدة. إذ سوف يشهد العالم ما بعد الأزمة استحداث يوتوبيا جديدة للجماعة المنيعة ونمط غير مسبوق من التحكّم واسع النطاق بالأجساد البشريّة. وستتمخّض المجتمعات النيوليبراليّة التقنيّة-الأبويّة في ظلّ أزمة كوڤيد-19 عن ذوات بلا جلدة، بلا جسد ملموس، بلا أيدي. لا يتداولون البضائع الحقيقيّة ولا يسدّدون بالنقود. وإنّما هم مستهلكون رقميّون مزوّدون ببطاقات ائتمان. بلا شفاه أو ألسنة. لا يتحادثون وجهًا لوجه وإنما يتركون لبعضهم البعض رسائل مسجّلة في البريد الصوتي. لا يجتمعون ولا ينتظمون في جماعة. لاأفراد بالمعنى الجذريّ. ليس لهم وجوه، فقط أقنعة. وجودهم مشروط بحجب أجسادهم العضويّة خلف سلسلة لامتناهية من الوساطات السيميا-تقنية: مجموعة من البدلات السيبرانية هي أشبه بأقنعة رقميّة، عناوين بريد إلكتروني وحسابات على فيسبوك وانستغرام وزوم وسكايب. ليسوا أشخاصًا من لحم ودم، وإنما منتجون عن بعد: هم شيفرات وعنصورات وحسابات مصرفية وأبواب بلا أسماء وعناوين ترسل أمازون إليها الطلبات.

إلى ذلك، رسم كوڤيد-19 خريطة تُحدَّد فيها المساحات اللامنتجة من الجسد الاجتماعي داخل المنظومة البورنوغرافيّا العقاقيريّة الجديدة، والتي أبطلتها منظومة الإنتاج التقني الرقمي الجديد. إنها أقاليم أو جماعات سكّانيّة كانت قد نُبذت على الضفة الأخرى من حدود السياسة الحيوية ولكنّها اليوم أكثر هشاشة من ذي قبل: المُسنّون ولا سيما من تمّ إيواؤهم في مصانع الموت المعروفة بدور العجزة وقد فاتتهم فرصة التحوّل إلى مواطنين تقنيّين سيبرانيّين، ومَن يقال لهم المعوّقين ولا سيما من تم إيواؤهم في مصانع الموت المعروفة بمراكز ذوي الاحتياجات الخاصّة، والمُجرَّمون والمُحتجزون ممّن تم إيواؤهم في مصانع الموت المعروفة بالسجون ومراكز الاعتقال، هؤلاء عوالم موازية خارج فقّاعة سوق الإنترنت. أما المُشرّدون (المتواجدون خارج منظومتي الضبط المنزلي والاستهلاك/السيطرة الرقميّة) فهم في عداد المُجرِمين بموجب تملّصهم من الاحتجاز ويتم عزلهم في مراكز احتجاز لا تضمن لهم الشفاء بل المزيد من العدوى. ولعلّ حقيقة أن العمل المأجور هو في حدّ ذاته منظومة للاحتجاز لم تكن قطّ أكثر وضوحًا ممّا هي اليوم، فها نحن نشهد زجّ العمّال "الأساسيّين"، كأجساد منزوعة الحصانة، في مواجهة خطر الموت. لم يخفّ ازدحام مترو الأنفاق في نيويورك فقد عمدت هيئة المواصلات إلى تقليص عدد رحلات القطارات فقط. معظم العمال الأساسيّين المجبرين على ركوب القطارات هم من ذوي الدخل المتدنّي، من المهاجرين، ومن الأقليّات العرقية. حركة انتقالهم القسرية هذه أيضًا ضرب من ضروب الاحتجاز. فبالنسبة إليهم، لم تعد مؤسسات الاحتجاز التقليدية، بما في ذلك المستشفيات، معاقل للحفاظ على النظام الاجتماعي والتأديبي فحسب وإنما حلقات هشّة في سلسلة من السياسة الحيا-مواتيّة دائمة التحوّل.

السجن الناعم: مرحباً بكم في جمهورية بيتكم بعيدة التحكّم

من بين التحوّلات الأساسيّة في تقنيات البورنوغرافيا العقاقيريّة التي ميّزت أزمة كوڤيد-19 صعود الفضاء المنزلي، لا مؤسسات الاحتجاز والتطبيع المجتمعي التقليديّة (كالمستشفى والمصنع والسجن والمدرسة إلخ)، كمحور جديد للإنتاج والاستهلاك والهيمنة السياسيّة. لم يعد المنزل محبَس الجسد فحسب كما كان في زمن الطاعون، بل بات المسكنُ مركز الاقتصاد الاستهلاكي والإنتاجي بل وأيضًا وحدة المراقبة عن بُعد. من الآن فصاعدًا، سوف يصبح الفضاء المنزلي نقطةً في حيّز المراقبة السيبرانية وموضعًا مُعيّنًا على خريطة غوغل وصورةً تتعرّف عليها الطائرات المسيّرة.

عندما أجريت دراستي على قصر پلاي بوي قبل سنوات عدّة، وشملت القصر الأصلي القوطي الطراز في شيكاغو أولًا ثم اللاحق في لوس أنجلس، كنت مأخوذًا بكيف كان هذا المكان شغّالًا إبّان الحرب الباردة كمُختبر شهد ابتكار أحدث الأجهزة البورنوغرافيّة العقاقيريّة للتحكّم بالجسد والجنسانيّة. بدأت تلك الأدوات تنتشر في الغرب مع نهاية القرن العشرين إلى أن عمّت مختلف أنحاء العالم مع حلول أزمة كوڤيد-19. أثناء دراستي للقصر، كان يدهشني كيف أن هيو هِفنر، وهو مِن أثرى أثرياء العالم، قد أمضى قرابة أربعين عامًا مُتسكّعاً في منزله يرتدي بيجاما وبُرنسًا وخفّين ويحتسي الپيپسي ويلتهم الحلوى. لقد أنتج وأخرج هِفنر أوسع المجلّات الرجاليّة انتشارًا في الولايات المتّحدة من دون أن يغادر منزله بل وأحياناً فراشه الذي جهّزه بهاتف ومذياع وستيريو وكاميرا ڤيديو فأصبح محطّة إنتاج فعليّة متعدّدة الوسائط.

يصف كاتب سيرة هِفنر، ستيڤن واتس، الرجل بالمعتكِف داخل فردوسه. وكان هِفنر هاويًا لجميع وسائل التوثيق السمعية والبصرية قبل اختراع الهاتف الخلوي وفيسبوك وواتس آب، فكان ينتج يوميًّا أكثر من عشرين شريط فيديو وتسجيل كاسيت تضم موادّ متنوّعة بدءًا من المقابلات وحتّى تعليمات الموظفين. وكان القصر شفيفًا ومعتمًا في آن معاً، بكِسوَته الخشبيّة وستائره السميكة، بجدرانه التي تخترقها آلاف الأسلاك وردهاته المجهّزة بأحدث تقنيات العصر في الاتّصال عن بُعد . نصب هِفنر كاميرات المراقبة في المنزل الذي كان يتشاطره مع مجموعة من عارضات پلاي بوي ما مكّنه من التسلّل إلى جميع الغرف عبر البثّ الفوريّ من مركز التحكّم. وقد نُشر بعض المواد المسجّلة على كاميرات المراقبة في صفحات المجلة.

وبخلاف تحوّل المواد الإباحيّة الغيريّة إلى ثقافة جماهيريّة، تصدّت ثورة السياسة الحيويّة الصامتة التي أشعلتها پلاي بوي للتقسيمات المتجذّرة في مجتمع القرن التاسع عشر الصناعي: فصْل حيّز الإنتاج عن حيّز التكاثر، وتفرقة المصنع عن المنزل، ومعهما التمييز الأبويّ بين الذكورة والأنوثة. تعاطت پلاي بوي مع هذا التمييز بطرح مشروع لخلق معتكَف جديد للعيش: وَكْر العزوبية المُزوَّد بتقنيّات الاتصال الحديثة. لا يحتاج المُنتِج السيميا-تقني الجديد لمغادرة وكره إطلاقًا، لا للعمل ولا لممارسة الحب: لا بل إن التمييز بين هذين النشاطين لم يعد ممكنًا. فراش هِفنر المستدير هو في الوقت عينه منضدة العمل ومكتب المدير وموقع التصوير ومخدع اللقاءات الجنسية، فضلًا عن كونه ستوديو للتصوير المتلفز حيث تمّ تسجيل برنامج Playboy After Dark (پلاي بوي بعد حلول الليل) الشهير. هكذا حدست پلاي بوي بخطابات العمل والاتصال عن بُعد والإنتاج اللامادي التي تحوّلت في ظلّ تدابير كوڤيد-19 إلى واجب وطني. أطلق هِفنر على المُنتِج الاجتماعي الجديد تسمية "العامل المتسطّح". وقد أفضت وجهة الابتكار المجتمعي التي بشّرت بها پلاي بوي إلى تآكل (ومن ثم زوال) المسافة الفاصلة بين العمل والمتعة وبين الإنتاج والجنس. فحياة فتى الپلاي بوي المصوّرة والمتداولة عبر المجلات ومحطات التلفاز هي حياة عامة بالمطلق حتى وإن لم يغادر بيته وإن لم يبارح فراشه. كان تصدّي پلاي بوي للفوارق ما بين نطاقي الذكورة والأنوثة يكمُن في تحويل مُشغّل الوسائط المتعددة إلى "رجل بيتوتيّ"، ما بدا تناقضًا سافرًا في حينها. يذكّرنا واتس بأن هذا النمط من العُزلة المُنتِجة كان يتطلّب دعمًا كيميائيًّا: فقد كان هِفنر يتعاطى أمفيتامينات الدِكسدرين. إذًا وللمفارقة، فإن الرجل الذي لم يغادر فراشه قلّما ذاق طعم النوم. فالفراش، بصفته المركز الجديد لتشغيل الوسائط المتعدّدة لم يكن سوى زنزانة بورنوغرافيّة عقاقيريّة: لا ينتظم أداؤها الوظيفيّ إلا بتعاطي أقراص منع الحمل والمخدرات التي ترفع درجة الإنتاجيّة، وأخيراً، بالاتصال عبر الحزمة العريضة الذي يضمن استمرار تدفّق الشيفرات السيميائيّة وقد أصبحت قوت فتى پلاي بوي الأوحد.

ألا يبدو هذا مألوفًا الآن؟ هل ترون التشابه الغريب مع يوميّاتكم وأنتم قيد الحجر؟ لنتذكر معًا الشعارات التي ردّدها الزعماء الفرنسيون والأميركيون على السواء: نحن في حالة حرب. لا تبارحوا منازلكم. زاولوا أعمالكم عن بُعد. لقد بات "العامل المتسطّح" الذي يؤّدي عملًا معرفيًّا أو لاماديًّا، المتماثل بشكل أو بآخر مع شخصيّة الپلاي بوي، الفرقة الناجية من الوباء في ضوء إجراءات السياسة الحيوية التي عُمِّمت لاحتواء جائحة كوڤيد-19. لقد بات حيّزنا المنزلي اليوم أكثر تطوّرًا بعشرة آلاف مرة من الناحية التقنية من فراش هِفنر الدوّار في العام 1968. وأصبح العمل عن بُعد والتحكّم عن بُعد رهنًا بكبسة من إصبعنا. أمّا في الخارج، فيبقى العمال المنتصبون من المُهمّشين ومن ذوي الهويّات العرقية والأجساد الأنثوية محكومين بالعدوى والموت.

في مؤلّفه «المراقبة والمعاقبة»، يتّخذ فوكو صوامع الرهبان كمستوعب وكنموذج على التحوّل من منظومة السيادة وقوامها تقنيات التحكّم الدموي بالجسد والذات إلى منظومة العمارات التأديبيّة ووسائل الاحتجاز التي أنشئت في القرن الثامن عشر بغرض فرض التدابير على شعوب بأكملها. وليست العمارات التأديبيّة سوى نُسخ دنيوية من صوامع الرهبان من حيث هي فضاءات يتحوّل فيها ابن الحداثة إلى روحٍ حبيسة في جسد، روح متعلّمة تستطيع أن تقرأ أوامر الدولة. حينما قام الكاتب توم وولف بزيارة هِفنر، قال عنه إنّه كان يعيش في سجن بنعومة لبّ الخرشوف. ويمكن القول أن قصر پلاي بوي وفراش هِفنر الدوّار اللذين تحوّلا إلى مواد للاستهلاك الجماهيري، قد عملا إبّان الحرب الباردة كفضاء انتقاليّ شهد تخليق الذات البدليّة [2] فائقة الاتصال وابتكار أنماط الإنتاج والاستهلاك البورنوغرافيّة العقاقيريّة الجديدة، وهذه من أبرز سمات المجتمع المعاصر. لقد شاعت الطفرة وازداد تضخّمها في ضوء تدابير أزمة كوڤيد-19: سجّاننا الجديد جهاز التواصل المحمول، ومنزلنا هو سجننا المستقبلي الناعم فائق الاتصال.

الاستسلام أو الطفرة

أيكون ما أسلفته نذير شؤم أم بشرى؟ إن تحوّل أجسادنا إلى أكناف جديدة للسلطة الحيويّة وتحوّل بيوتنا إلى زنازين للرقابة الحيوية هما الدافع الملحّ لابتكار استراتيجيّات جديدة للانعتاق والمقاومة المعرفيّين ولتفعيل أنماط جديدة من المناهضة والاستعداء.

وعلى عكس ما يتصّوره البعض، فإنّنا لن ننجح في المحافظة على صحّتنا عبر فرض المزيد من الحدود وممارسة المزيد من العزل وإنما عن طريق إعادة النظر في مفهوم الجماعة ليشمل جميع الكائنات الحيّة وليُوجد أنماطًا جديدة من المشاركة مع الكائنات الأخرى التي تشاطرنا كوكبنا. يلزمنا برلمان غير مقيّد بسياسات الهويّة والجنسيّة: وإنما برلمان من الأجساد (المُستضعفة) التي تحيا على هذا الكوكب. تدعونا لحظة كوڤيد-19 وتبعاتها إلى تجاوز العنف الذي يؤطّر مناعتنا الاجتماعية بشكل نهائيّ. إذ لا يجوز للتعافي ولإعادة التأهيل أن يكونا مجرّد انسحاب اجتماعي سلبيّ، انغلاق مناعي للمجتمع. لا مجال للتعافي والرعاية إلّا من خلال عمليّة تحوّل سياسي. وسوف يتطلّب التعافي على نطاق المجتمع ابتكار جماعة جديدة متجاوزة لسياسات الحدود والهوية التي لا زلنا ننتهجها إلى اليوم في إنتاج خطاب السيادة ومتجاوز لاختزال الحياة في الرقابة الحيوية السيبرانية. كي نظل على قيد الحياة وكي نحافظ على حياة كوكبنا في مواجهة الڤيروس وفي مواجهة تبعات قرون من الدمار البيئي والثقافي، لا مناص من تعميم أشكال بنيوية جديدة للتعاون الدولي. وكما يمر الڤيروس بطفرات جينيّة سيكون علينا نحن أيضًا أن نمر بها إن أردنا أن نتجنّب الاستسلام.

علينا الانتقال من الطفرات القسريّة إلى طفرة انتقائيّة. علينا أن نعيد انتزاع تقنيات السياسة الحيويّة وأدواتها البورنوغرافيّة العقاقيريّة. لكن أوّلًا علينا تغيير علاقة أجسادنا بآلات الرقابة الحيوية في إطار الهيمنة الحيويّة. فهذه ليست مجرّد أجهزة اتصال. علينا أن نتعلّم معًا كيف نعدّلها. وعلينا أيضًا أن نتعلّم كيف نخرج أنفسنا من حالة الاستلاب. تدعونا الحكومات إلى الحجر على أنفسنا والتواصل عن بعد. ولكننا ندرك أن ما يدعوننا إليه في الحقيقة ما هوّ إلّا تفكيك لترابطنا الجماعيّ وتكريس للتحكّم بنا عن بُعد. دعونا إذًا نستغلّ فترة الحبس الصارمة هذه لندرس تقاليد النضال والمقاومة التي خلّفتها لنا ثقافات الأقليّات العرقيّة والجنسيّة والتي أعانتنا على الاستمرار إلى الآن. فلنغلق هواتفنا الخلويّة، فلننفصل عن الإنترنت. فلنعتم رؤية الأقمار الصناعية التي ترصد تحرّكاتنا ولنتأمل معًا فجر الثورة الآتي.


[1] باللغة الإنكليزيّة سميّت الفئات الأكثر عرضة لعدوى الإيدز Four H’s: homosexuals, Haitians, haemophiliacs, heroin users.

[2] أي الذات المركّبة من الخلايا البيولوجيّة والأعضاء الصناعيّة البديلة.


پول پريسيادو

فيلسوف وقيّم وناشط عابر جنسيًّا. صدر له في العام 2019 «شقّة في أورانوس: يوميّات العبور» ويضم مجموعة من مقالاته المنشورة بين العامين 2013 و2018 في صحيفة ليبراسيون وغيرها، عن دار Semiotext(e) .

ترجمة الأصل الفرنسي: مولي ستيڤنز
تعريب النص الإنكليزي: ديما حمادة و محمد عبد الله