-1-

توطئة. خلال العقد الماضي، تزايد اهتمام النقّاد من مجالاتٍ عدّة بمفهوم "المعاصر". ويُلحَظ هذا الاهتمام بشكلٍ خاص في مجال الفنون تزامنًا مع إقدام العديد من المؤسسات والدوريات والنقّاد والمؤرّخين/ات الفنيين/ات على طرح سؤال: "ما هو الفن المعاصر؟"1 فالسؤال مربك لا سيّما أن أصحابه لا يكتفون بمحاولة تعريف نوع الفن الذي يتمّ إنتاجه في الوقت الراهن. وواقع الحال أن مفهوم الفن المعاصر قد راكم العديد من المدلولات فأصبح تعبيرًا فضفاضًا يحمل معاني مختلفة حسب السياق الذي يرد فيه: فقد يكون المقصود به نمطًا معيّنًا من الإنتاج الفني أو حساسيةً جماليةً خاصة أو حقبةً محددةً من تاريخ الفن أو أسلوب عرض أو قسمًا خاصًا في أحد المتاحف الفنية أو حتى بعض العادات والأذواق والأسعار المتداولة في الدوائر النخبوية من أوساط السوق الفنية. أما في دوائر النقد الفني، فقد بدا الاهتمام بالمعاصر متقاطعًا مع تراجع الاكتراث بـ"ما بعد الحداثي" كمفهومٍ ساد السجالات النقدية على مدار عقود خلت، وقد تزامن مع استبدال تدريجي للمصطلحات المُستخدَمة في التحقيب الفني، والذي إن دلّ على شيء فعلى حدوث تغيّر ما في منظومة النقد الفني.

بيد أنه على عكس سجال ما بعد الحداثة الذي تزامن رواجه مع تنظيرٍ مستفيضٍ من قِبل نقّاد العمارة والأدب والثقافة، فإن النقاشات الأخيرة حول مفهوم المعاصر توحي بأنها لا تزال في بواكيرها. لا يضاهي الوقوف على ذكر المعاصر حتى الآن أياً مما قيل في "ما بعد الحداثة" إمّا بوصفها "نسقًا" ثقافيًّا (لا "حقبة") جاء ليعلن نهاية السرديات الكبرى بعد أفول الحداثة (ليوتار)، أو مفهومًا تحقيبيًّا يعبّر به النقاد عن المنطق الثقافي للمرحلة المتأخرة من الإنتاج الرأسمالي (جيمسون). هل المعاصَرة نمطٌ جديد من الزمانية؟ وهل يعتبَر المعاصر مفهومًا جديدًا من التحقيب؟ هل "الفن المعاصر" مجرّد تعبير عن تراتبيةٍ زمنيةٍ أم هو مصطلح جمالي، أم الاثنان معًا؟ هل يحيل إلى إطارٍ زمنيٍ مغاير للتاريخ الثقافي أم إلى نموذجٍ أو نسقٍ جديدٍ من الصناعة الفنية؟ وماذا نستنتج من العلاقة بين ما بعد الحداثي والمعاصر من جهة، وبين هذين الاثنين ومفهوم الحداثة من جهة أخرى؟

وفي رأيي أن للاختلاف بين المعاصر وما بعد الحداثي وجهةً واحدةً جديرةً بالذكر: أن للمعاصر جانبًا ماديًّا أو ملموسًا لم يكن للأخير قط. وأعني بذلك أننا لم نشهد مؤسسةً واحدةً مخصّصةً بصورةٍ رسميةٍ "للفن ما بعد الحداثي" حتى في أوج عصر ما بعد الحداثة. لم أصادف قط متحفًا أو مركزًا للفن تحمل واجهته لافتة كُتب عليها بالأحرف الكبيرة "متحف/مركز كذا للفن ما بعد الحداثي"، ولا سمعت بقسم للتسويق الفني مخصص لـ"مبيعات الفن ما بعد الحداثي". وباستثناء عدد من المعماريين/ات الذين واللواتي استخدموا/ن المصطلح للإشارة إلى بعض الخصائص الأسلوبية في مجال عملهم، اقتصر استخدامه من قبل المشتغلين/ات في النقد الأدبي والثقافي على تعابير مجرّدة محاولةً منهم/ن للإحاطة بالمنطق الثقافي لرأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية.

في المقابل، يتّصل المعاصر بمجموعةٍ "فعليّةٍ" من الممارسات والمؤسسات من بينها متاحف ومراكز فنية ودوريات واختصاصات أكاديمية وبرامج توثيقية ومراكز وظيفية وشرائح سوقية خاصة وإلى ما هنالك. وبخلاف ما بعد الحداثي الذي بدا أشبه بنسقٍ لا مادي أو بمنطقٍ مجرّد ينظّر له النقاد من داخل الأسوار الأكاديمية، توسّع تواجد المعاصر تباعًا في نواحٍ فعليةٍ من الحياة الفنية والأكاديمية وفي الصناعات الثقافية وعالم المال والخدمات والأعمال. هذه المادية إن دلّت على شيء فعلى اختلاف المرجعية التي انبثقت عنها كلا التسميتان — ما بعد الحداثة والمعاصرة — ففي حين ذاع مفهوم ما بعد الحداثة بشكلٍ خاص بين نقاد الأدب والثقافة والفنانين/ات والمعماريين/ات، انبثق استخدام تعبير "الفن المعاصر" بصيغته المتعارف عليها اليوم من أوساط المديرين/ات الثقافيين/ات بدءًا من النصف الثاني للقرن العشرين وما بعده سعيًا منهم/ن للإشارة إلى نوعٍ جديدٍ من المؤسسات الفنية والأقسام المتحفية ولتمييز شريحةٍ جديدةٍ من المبيعات الفنية داخل دور المزادات الكبرى. وبدا في بعض الأحيان أن تسمية الفن المعاصر قد تسلّلت إلى الخطاب النقدي والتاريخي الفني الأكاديميين من الباب الخلفي لنوعٍ معيّنٍ من المؤسسات المعنية بالترويج للفن أو المضاربة عليه.2

لست هنا بصدد الإسهاب في استضياح الاختلافات بين التسميات التحقيبية وإن كانت بالغة الأهمية لا سيما اليوم ونحن نتلمّس "تغيّرًا مفاهيميًّا" نحو تبنّي تسمية جديدة: الفن العالمي.3 في المقابل، أود أن أتعمّق في مفهوم المعاصر الذي يتّسم بالنسيان، شأنه في ذلك شأن ما بعد الحداثي. إذ يُخال أن المعاصر محكومٌ بفقدان نوعٍ من الحساسية حيال التاريخ أو التاريخانية. وهو الفقدان عينه الذي يوصّفه فريدريك جيمسون كأحد الخصائص المميِّزة لظاهرة ما بعد الحداثة.4 فإذا بالإصدارات والكتب الراهنة المكرَّسة لمساءلة طبيعة الفن المعاصر لا تتعدّى في قراءاتها المظهر الخارجي للمعاصر المضارع دائمًا، وكأنها قد باتت متورّطةً في المنطق اللاتاريخي عينه الذي تسعى إلى تفكيكه. أما أنا، فأسعى إلى تقديم نبذةٍ تاريخيةٍ أوسع اطّلاعًا حول ما بات يُعرَف راهنًا بالفن المعاصر في ذلك المكان من العالم الذي شهد ولادة المصطلح وصعوده المباغتين. فبالنظر إلى سلسلةٍ من المعاني التي تمّ توظيفها في مصطلح المعاصر وبالمقارنة مع المسلكيّات الفنية ما قبل المعاصرة أو ما دون المعاصرة، أرى أن الفن المعاصر (وفق الاستخدام الراهن لهاتين اللفظتين) يحيل إلى مجموع الظروف المحيطة بالإنتاج الفني الذي ازدهر في سياق المرحلة المتأخّرة من الرأسمالية العالمية أو النيوليبرالية أو سياسات المحافظين الجدد أو الشركاتية أو إيديولوجيا السوق الحرة أو اقتصادات "دعه يعمل دعه يمرّ" بحسب الأدبيات المختلفة. وقد تعزز حضور الفن المعاصر — باعتباره شريحة من الإنتاج الفني المدعوم من قَبل شبكةٍ عالميةٍ من المؤسسات الفنية، تلك الشريحة التي لطالما ثابرت لإحراز واستبقاء الهيمنة على الأنماط الأخرى "غير الديموقراطية" — خلال النصف الثاني من القرن العشرين على خلفية تراجع دول الرفاه والاشتراكية وما خلفه ذلك من آثارٍ ونقاطٍ معتمة في انتظار استجلائها.

-2-

الفن المعاصر، نتاج الانتقال إلى ما بعد الإشتراكية. نجد في البلدان ما بعد الاشتراكية، أي بلدان أوروبا الشرقية سابقًا، القابعة على تخوم العالم الغربي، أرضيةً خصبةً لفتح نقاشٍ مطّلع تاريخيًّا حول الفن المعاصر. فقد شهدت تلك المنطقة التجلّي الأكثر وضوحًا للنواحي "المادية" للمعاصر — التي تُفهَم في هذا السياق على أنها الممارسات المرتبطة بتكييف ومأسسة أنماطٍ معيّنةٍ من السلوك الفني. ولا شك في أن مأسسة الفن المعاصر في الغرب قد مرّت بتاريخٍ حافلٍ، إلا أنها تمّت في سياقها الزمني (كشأن عملية التحديث التاريخية الغربية بصفةٍ عامة) وفي إطار تقاطعاتها مع صعود مجتمع الاستهلاك في حقبة ما بعد الحرب الثانية. أما الاختلاف الجذري في ما يخصّ ظهور الفن المعاصر في بلدان ما بعد الاشتراكية فيكمن في نقل ممارساتٍ جديدةٍ وغير مألوفة من السلوك الفني وإسقاطها على المشاهد الفنية الموجودة في عجالةٍ شديدة. وهذا النقل المؤسسي المباغت هو ما يجعل كل ما يسمّى بالفن المعاصر في تلك المنطقة موضوعًا للتناول النقدي.

حدثت هذه العملية أثناء ما يعرَف بالعقد الانتقالي، أي الفترة التي بدأت فيها المبادرات الأجنبية والمحلية الحكومية والخاصة ببناء أنماطٍ مؤسسيةٍ جديدة في مختلف دوائر الحياة الاجتماعية. تزامن ذلك مع انطلاق عمليةٍ واسعةٍ النطاق من البناء المؤسسي تحت شعار "التحوّل الديموقراطي". وكان الاعتقاد السائد خلال تلك المرحلة بأن محاكاة النماذج المؤسسية الغربية المجرَّبة مسبقًا ووضعها في حيّز التنفيذ هو الوسيلة الأنجع لتغيير سلوكيات المواطنين الاشتراكيين السابقين لمواءمتهم مع منطق النظام السياسي الاقتصادي الجديد. وقد أُطلق على مقاربة التحديث هذه تعبير "الرأسمالية العمديّة" (capitalism by design).5

وقد تمّت عمليّات مشابهة الدمقرطة العمديّة في مجال الفن، حيث برزت أنواع جديدة من المؤسسات الفنية المموَّلة من الخارج لدعم ونشر أنماط "منفتحة" و"ديموقراطية" من الإنتاج والعرض والتسويق الفني. وفي سياق هذه المساعي، كانت شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر (SCCA) الأكثر فعالية وسيُنسَب إليها لاحقًا إرساء أسس ما يُعرَف اليوم بالفن المعاصر في المنطقة. توزّعت هذه الشبكة في التسعينيّات في ثمان عشرة دولة ما بعد اشتراكية في شرق أوروبا ووسط آسيا6، وفي ما يلي سألقي الضوء على جانبٍ بالغ الأهمية في نظري بما يتعلّق بأهداف هذه الشبكة ومن ثمّ على ماهية الفن المعاصر.

-3-

أهداف مؤسسة الفن المعاصر. سرى اعتقادٌ مغلوطٌ لدى الكثيرين (ولا يزال قائمًا عند البعض) بأن الهدف الرئيسي لمراكز سوروس هو التبرّع للفن أي توفير الدعم للفنانين/ات في الفترات الانتقالية العصيبة. في البداية، لا بد من التمييز بين التبرّع (charity) والعمل الخيري (philanthropy) والسبيل إلى ذلك يكون بالرجوع إلى المثل الذي بات شعارًا للعديد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية الفاعلة في المناطق القابعة على هامش العالم الغربي: "أعطِ الرجل سمكة تطعمْه ليوم واحد، علّمه الصيد تطعمْه مدى الحياة". وقد كان عمل برنامج مراكز سوروس للفن المعاصر أسوةً بمعهد أوبن سوسايتي وغيره من المؤسسات العاملة في البلدان ما بعد الاشتراكية خيريًّا حيث شكّل كل من تلك المراكز موردًا لتدريب الفنانين/ات على "الصيد" في المياه الاجتماعية السياسية والاقتصادية المستجدّة.

اتّبع برنامج مراكز سوروس للفن المعاصر في مشروعه التوجّهات الجديدة في السياسات الثقافية والتي أخذت تتبلور في النصف الثاني من القرن العشرين في الغرب وبالأخص في الولايات المتحدة الأميركية. وتمحورت أنشطتها حول سلسلةٍ من التحوّلات التي شكّلت تبعات ما يسمّى بالثورة الإدارية في عالم الفن.7 وكان من أبرز مآلات هذه الثورة اختفاء الرعاية الفردية في مقابل صعود الرعاية الثقافية المؤسسية غير الربحية، الأمر الذي أذن بتحوّلٍ في السياسة الثقافية أدّى إلى تراجع شخصية الراعي الفني الثري الذي رافق الفنان على امتداد حقبات متعاقبة من تاريخ الفن. في الولايات المتحدة، كانت مؤسسة فورد أوّل مؤسسةٍ خاصة تروّج لهذا النموذج المختلف جذريًّا من العمل الخيري الثقافي فطرحت على سبيل المثال مفهوم المنح الفنية. لم يعد الأمر منوطًا بالتعبير عن إحسانٍ فرديٍ كهبةٍ يمنحها الراعي الثري إلى الفنان بدافعٍ من حبه للفن، وإنما باستثماراتٍ عالية الاستدانة.8 ففي حين رأى المدافعون عن الثورة الإدارية الثقافية تلك السياسات المستحدَثة وسيلةً لتحقيق المزيد من المشاركة الثقافية والديموقراطية واللامركزية في الممارسات الثقافية بما يفتح مجال التعبير للهويات والجماعات المتنوعة من خلال دعوتها للمساهمة في صنع الثقافة، رأى المنتقدون هذا التحوّل نحو العمل الخيري الفاعل بمثابة تدخّلٍ سافرٍ من قِبل رأس المال الخاص في حقول الثقافة واعتبروه محاولةً لتطويع وتوجيه النزعات الفنية الجانحة وإرساء نمطٍ من "العمل الخيري القهري"، وهو نمطٌ من الدعم الثقافي الذي يفرض على الفنانين/ات الاستجابة "الفنية" لبرامج ومشاريع محدّدة يخطّها المديرون/ات الثقافيون/ات حفاظًا على استمراريتهم/ن.9

بدأ التململ من هذه الأنماط الجديدة من الإدارة الثقافية يظهر في مرحلةٍ متأخرة عن الغرب وذلك بالتزامن مع ما يُعرف بالتحوّل الاجتماعي عند مطلع الألفية. وكانت مراكز سوروس للفن المعاصر لحظة وضع معهد أوبن سوسايتي برنامجها قيد التنفيذ، تُعتبَر بمثابة نماذج غربية تقدّمية تمّ استقدامها بغية المساهمة في تحقيق الديموقراطية في الفن. وقد استهدفت النشاطية الخيرية التي مارستها مراكز سوروس للفن المعاصر جذور المسائل المتعلّقة باستشراف دور الفنون والفنان/ة في مجتمع ما بعد الشمولية الناشئ وبكيفية النظر إلى علاقة الفنان/ة بالمؤسسة الفنية المستقلّة وبمن يتولّى رعاية مصالح الفنان/ة الاقتصادية.

-4-

نموذجان مؤسسيان. في مطلع التسعينيات تحدّث نقاد الفن في أوروبا الشرقية عن نموذجين متوازيين متباينين من المؤسسات الفنية، واصفين الأوّل بمصطلحات من أمثال "الفنون الجميلة" و"النخبوية" والآخر بـ"المعاصر" و"الديموقراطي".10 ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق برنامج مراكز سوروس للفن المعاصر، وُجدت مراكز عدّة في تعارض مع اتحادات الفنانين المحلية (أي الروابط المهنية الخاصة بالفنانين والمشابهة للنقابات الحرفية الاشتراكية). لم يكن هذا التعارض يفضي بالضرورة دائمًا إلى المواجهة، ولكنه استمر بإلحاح نظرًا لتضارب الأهداف وأساليب العمل. كان اتحاد الفنانين هيكلًا تنظيميًّا فاعلًا تحت مظلّة النظام الاشتراكي السوفياتي وقد نشأت من خلاله صيغ مؤسسية عدّة (تعاونيات ونقابات حرفية ولجان) ذات أهداف اجتماعية غير بعيدة عن تلك التي تتطلّع إليها مراكز روروس للفن المعاصر. ولكن بعيدًا عن الأهداف المشتركة لدعم الإنتاج الفني ونشر الفن، برز الاختلاف الجذري بين النموذجين على صعيد كيفية تحقيق هذه الأهداف.11

وبعكس الاتحادات التي وفرت الدعم لأعدادٍ كبيرةٍ من الفنانين/ات المنضمين/ات إليها، قدمت مراكز سوروس ذات مصادر التمويل الخاصة الدعم للفنانين/ات من دون اشتراط العضوية أو أي نوع من أنواع التبعية المهنية. وفي حين كانت الاتحادات تُدار من قبل لجان وممثلين/ات منتخبين/ات جماعيًّا (ولا يزال الكثير منها إلى الآن)، وغالبًا ما يكون الممثّل/ة عن الاتحاد رسامًا/ة أو نحاتًا/ة يُـ/تُنتخَب بناءً على المناقبية المهنية، كانت مكاتب مراكز سوروس للفن المعاصر عبارة عن هيكليات تُدار من قبل مدرين/ات مُعيَّنين/ات من مؤرّخين/ات فنيين/ات ونقاد، إمّا بناءً على إعلان توظيف أو في مراحل سابقة بناءً على ترشيح المدير/ة التنفيذي/ة في الشبكة. وفي حين كان/ت الفنان/ة الممثّل/ة للاتحاد تحكم وفقًا للقرارات المتَّخذَة بصورةٍ جماعيةٍ (بالشورى لا بالفرض) في الجمعيات العمومية للاتحاد، كان مديرو/ات مراكز سوروس للفن المعاصر يمارسون النشاطات تبعًا للقرارات المتَّخذَة والمصادق عليها من قبل مجلس مصغَّر من الخبراء (وهي علاقةٌ شبيهةٌ إلى حد ما بتلك الناشئة بين المديرين/ات التنفيذين/ات والمساهمين/ات القانونيين/ات في الشركات في الغرب). وفي مقابل المعارض التي أقامتها الاتحادات بتحكيمٍ من الفنانين/ات، كانت معارض مراكز سوروس للفن المعاصر تخضع للتحكيم من قِبل هيئةٍ من النقاد والمؤرخين/ات الفنيين/ات ولاحقًا المنسقين/ات الفنيين/ات المُكلّفين/ات. وفي حين اضطلعت اتحادات الفنانين بالإشراف على مختلف نواحي معيشة الفنانين/ات الأعضاء (بما في ذلك توفير فضاءات العرض ونشر الأعمال الفنية بدعمٍ من صندوق الفنانين وتأمين التكليفات الرسمية والاستديوهات والمواد وحتى الشقق والرحلات الصيفية والمعاشات التقاعدية وحضانات الأطفال ذات الأسعار المُخفّضة)، اتّبعت مراكز سوروس للفن المعاصر أسلوبًا من العمل بالساعة يوفّر المنح قصيرة الأمد بموجب عقود بأجل ويؤجّر المعدات والمواد والخدمات عبر وسطاء متعهدين يتمّ استخدامهم في الأغلب بناءً على استدراجٍ مُعلَنٍ لعروض الأسعار. وبينما اقتصرت خدمات الاتحادات على الأعضاء المنضوين تحتها (بحيث اشترطت على طالبي العضوية أن يكونوا/يكنّ فنانين/ات حائزين/ات على شهادةٍ من أحد المعاهد الفنية التابعة للدولة)، كانت مراكز سوروس للفن المعاصر مفتوحةً للجميع بغض النظر عن التحصيل الأكاديمي وكثيرًا ما كان الفنانون/ات المتعاونون/ات مع هذه المراكز من غير المجازين/ات بالفنون. وأخيرًا، كانت الهيكليات المؤسسية للاتحادات تتبّع التصنيفات الخاصة بفنونٍ محددةٍ — فقد انقسمت اتحادات الفنانين إلى هيئاتٍ أو فروعٍ للرسم والنحت والفنون الغرافيكية والفنون التصميمية، في حين شمل اتحاد المؤلفين الموسيقيين أقسامًا للموسيقى السيمفونية وموسيقى الغرفة وموسيقى الجوقة. في المقابل، اتّبعت مراكز سوروس وفق أنماطٍ متعدّدة أو متداخلة الوسائط من دون إيلاء أي تفضيلٍ لنوعٍ معيّن من التقنيات الوسائطية وبالتالي فقد حافظت على انفتاحها على مجمل الأنماط والوسائط الفنية. ولم تستند الهيكليات الداخلية لهذه المراكز، إن وُجدت، إلى تقسيماتٍ وفق الأنواع الفنية التي تبلورت تاريخيًّا حول نوع الوسيط أو الحرفة بل بناءً على توزّع الميزانية بشكلٍ أساسيٍ بين ثلاث فئات من الأنشطة: منح الفنانين، التوثيق الفني ومعارض الفن المعاصر.12

ومن نافل القول أن نموذج الفن المعاصر الذي روّجت له مراكز سوروس للفن المعاصر تبنّى برنامجًا فنيًّا وجماليًّا مغايرًا. وللمزيد من الإيضاح حول هذا الاختلاف يمكننا الاستعانة بالثنائيّة التي روّج لها منظّرو/ات الانتقال ما بعد الاشتراكي. فقد تبنّت المكاتب الغربية الحكومية والخاصة تفرقة كارل بوبر بين المجتمعات المفتوحة (الديموقراطيّة) والمغلقة (الشموليّة أو السلطويّة) وعمدت إلى نشرها في سياق خطاب المرحلة الانتقاليّة. وتفيد هذه التفرقة التي آثرها علماء الاجتماع وصنّاع السياسات النيولبراليين في توفير وصفٍ دقيقٍ للتعارض ما بين المبدأين الجماليين والفنيين اللذين انقسم بينهما الحقل الثقافي ما بعد الاشتراكي خلال الفترة الانتقالية. على سبيل المثال، يمكن وصف نموذج الفن المعاصر بـ"الفن المفتوح" الذي عمدت مؤسسة أوبن سوسايتي إلى نشره والترويج له، حيث يتّبع هذا النوع من الإنتاج الفني توجّهات ما أسماه أمبرتو إيكو "العمل المفتوح"(opera aperta).13 ويطلق إيكو وصف المفتوح على قطاعٍ من الفن والجمالية الشعرية يستند إلى التراث الثقافي الحداثي ذي الخصائص الفنية والجمالية التي تتيح مجالًا واسعًا للتأويل والقراءة بفضل إتاحة المفهوم الديموقراطي لتشكّل علاقاتٍ متعدّدةٍ ما بين مجموعاتٍ متنوّعةٍ من العناصر الفنية. ويكون العمل "المغلق" عندئذٍ نقيض العمل المفتوح أي عملًا ملتزمًا بتراتبيّاتٍ مكرّسةٍ وبمجموعة مبادئ مسبقة التصوّر تتمحور العلاقات الفنية ضمنها حول فكرةٍ مركزيةٍ أو مجموعةٍ من الأفكار، على غرار الفن ما قبل الحداثي المتمركز حول الفرضيات الميتافيزيقية والدينية المسيحية.

تستدعي الاختلافات المذكورة آنفًا بين النموذجين الفنيين المتضادين تحت شعاري "المفتوح" و"المغلق" أو "المعاصر" و"الفنون الجميلة" تبعاتٍ بعيدة التأثير على الإنتاج الفني. إذ يحثّ كل نموذجٍ على نمطٍ خاصٍ من السلوكيات الفنية. سأعدّد هنا بعض هذه الاختلافات استنادًا إلى كتابٍ قلما يُشار إليه لتييري دو دوف الذي وضع مقارنةً بين نموذجين متصارعين من التربية والتدريب الفنيين: الفنون الجميلة والباوهاوس.14

يقوم النموذج الاتحادوي المتماثل مع نموذج "الفنون الجميلة" في تعريف دو دوف، على فرضية أن على الفنان أن يمتلك الموهبة (باعتبارها المَلَكة الفطرية التي تنعم بها القلّة من الناس)، في مقابل النموذج الفني الديموقراطي المعاصر الذي ينطلق من مبدأ أن جميع الفنانين/ات يمتلكون/ن موهبةً متساويةً (يذكّرنا هذا بشعار يوزف بويس "Jeder Mensch ist ein Künstler" أي "الكل فنّان")، فيؤخذ بالسلوك والموقف كمبدأ للتقييم. وإن كان/ت الفنان/ة ما قبل المعاصر/ة يمتلك تقنيةً أو حرفةً معيّنةً (كالرسم أو النحت اللذين يـ/تتدرّب عليها الفنان/ة عبر نظام التدرّج في المحترفات الفنية)، فإن الفنان/ة المعاصر/ة يـ/تعمل بوسائط متعددة (باعتبارها معلومات أو بيانات تُنقل عبر قناة اتّصال معيّنة) في حين لا تنحصر عملية التعليم بالدراسة في المعهد الفني على غرار السائد في التحصيل الأكاديمي في القرن التاسع عشر. وإن كان الاختصاص ممارسةً، فالوسيط مبحث. وإن كانت المهنة تٌكتّسب بالتعلّم، فالوسيط يُكتَشف بالبحث. وإن كانت الحرفة تعتمد على الخبرة التقنية، فالوسيط مجالٌ لامحدود من التجريب. وإن كانت الفنون الجميلة تنبع في صميمها من مبدأ التقليد، فيجوز القول أن الفن المعاصر في المقابل يؤثر الإبداع (مع انحياز الكثيرين من أعضاء لجان التحكيم لدى مراكز سوروس للفن المعاصر إلى "المفاهيم" و"البراعة المفاهيميّة").

تفيد هذه المقارنة بين مراكز سوروس للفن المعاصر والاتحادات — وإن كانت غير وافية بجميع جوانب الاختلاف — باستخلاص بعض الاستنتاجات حول بدعة نموذج الفن المعاصر الذي عمّمته الأولى. فعلى الصعيد السياسي، يجوز التمييز بين مؤسسة جماهرية مدعومة من الدولة ذات آليات لاتخاذ القرارات الجماعية (حتى وإن كانت شكلية) ونموذج شركاتي خاص حيث لا يـ/تمتلك الفنانون/ات الحق الرسمي بممارسة أي تأثير على قرارات المديرين/ات. (لعلّها مناسبة للتذكير بإصرار مجموعة "شتو ديلات" على أن يكون مقيّم الدورة المقبلة من معرض "دوكومنتا" فنانًا/ة). أما على الصعيد المؤسساتي، فنميّز بين جمعيّاتٍ قديمة العهد تتّبع نموذج تصنيفات الروابط الحرفية التي عفا عليها الزمن وتعكس بعض المهن أو الحرف التاريخية (الرسم والنحت والفنون التصويرية) من ناحية، وبين نموذجٍ معاصر متداخل أو عابرللوسائط على طراز المؤسسة التجارية المعاصرة ذات الهيكليات المتوافقة مع حقلٍ واسعٍ من الأنشطة أو الخدمات من ناحيةٍ أخرى، كما هي الحال في مراكز سوروس للفن المعاصر التي تقوم هيكلياتها على أساس التقسيم الثلاثي للميزانية. وأمّا على الصعيد المهني فنميّز بين فناني/ات الاتحادات المحاطين/ات بظروف عمل وافيةٍ وشاملةٍ لجميع احتياجاتهم/ن وإن على حساب إخضاع إنتاجهم/ن الفني للتوجيه والرقابة، وبين نموذج الفن المعاصر الذي يبيح بل ويشجّع الفنانين/ات على صنع "ما يحلو لهم/ن" مع الاكتفاء بتوفير "الشروط الخارجيّة" (outward preconditions)15 لمجموعةٍ منتخَبة منهم/ن بحسب معايير النجاح الرأسمالية. وأمّا على الصعيد الفني، فنميّز بين الحرفيّة المنظَّمة والممارَسة في نطاق الأنواع الفنية المعتمَدة تاريخيًّا (التي يجب أن تبقى "اشتراكية شكلًا وقوميةً مضمونًا") وبين التوجّه الحداثي (أو ما بعد الحداثي) نحو "العمل المفتوح" الذي يعتبر أن إشكالات الشكل والمضمون قد عفا عليها الزمن. عوضًا عن ذلك، تبحث التوجّهات المعاصرة عن وسائل ووسائط جديدة للتعبير الفردي أو تسعى إلى مواصلة إنشاء وإبداع الانفعالات والمدركات والمفاهيم (على حد تعبير دولوز).

وعلى الناحية المؤسسية، يعيد ظهور شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر في أوروبا الشرقية في بداية التسعينيات إلى الأذهان ما حدث في أوروبا الغربية بُعيد الثورة الفرنسية عندما تمّ حظر العديد من الروابط الحرفية التي درجت تحت مظلّة النظام القديم لاعتبارها عثرةً في سبيل اللبرلة وإنشاء روابط السوق الحقيقية.16 وهذا بالضبط ما حدث في بلدان ما بعد الاشتراكية حيث استُبعد نموذج الاتحادات على نمط الروابط الحرفيّة وقُلِّص تأثيرها على مجال الفن بصورةٍ جذريةٍ، نظرًا لما اعتبرته النخب الثقافية الجديدة نموذجًا مفرطًا في الضوابط والمساواة، احتكاريًّا وغير مواكب للزمن، أي باختصار نموذجًا يعوّق تطوّر العلاقات الرأسمالية المعاصرة في مجال الإنتاج الفني. فقدت هذه الاتحادات السلطة المشرّعة لوجودها مع وصول مراكز سوروس للفن المعاصر إلى المشهد ولم تعد الجهة الحصرية التي تقرّر من الفنان/ة ومن عداه/ا.

-5-

العمل الفني المعاصر كوثيقة. تنجم الاختلافات بين المؤسسات الفنية المعاصرة والاشتراكية عن افتراقٍ في النظرة والمقاربة. ويتمتّع كلٌ من النموذجين ببرنامجٍ وبهيكليةٍ مؤسسيّةٍ خاصين بهما. فتختلف مراكز سوروس للفن المعاصر عن الاتحادات، على سبيل المثال من الناحية الإدارية، في أن الأنشطة الفنية في الحالة الأولى لا تخضع للمنطق الداخلي لما سُمّي منذ القرن الثامن عشر بالفنون الجميلة، أي للتقسيمات التقليدية التاريخية لأنواع الفنون إلى رسمٍ ونحتٍ وتصويرٍ والتي تخضع بدورها لتقسيماتٍ فرعيةٍ تراتبيةٍ تمايز بين "الفنون الجميلة" و"التطبيقية"، والفنون "الراقية" و"الشعبية". إلى ذلك، فقد عمدت مراكز سوروس للفن المعاصر تطبيقًا لروحية التكافؤ الديموقراطي والسوق الحرة إلى إزالة القيود عن الإنتاج الفني ولامركزته عن طريق نبذ التقسيمات بين الفنون والوسائط والإصرار على أن المساواة بين مختلف الأساليب الفنية هي من قواعد المجتمع المنفتح والمستنير. إذًا فالمعاصر يقتضي المساواة الزمنية وبالتالي فهو لا يخضع لأي سلطة سواء كانت مستمدّة من التقاليد والأعراف أو من التاريخ، يأبى دعم أو تفضيل أي أسلوب أو وسيط أو تيّار على حساب آخر (علمًا أن معظم مراكز سوروس للفن المعاصر — والكلام بيننا — قد واظبت ضمنيًّا على تشجيع وتفضيل استخدام أحدث التقنيات والأنساق الوسائطية ولا سيما تلك المعتمدة على أحدث المعدّات والتكنولوجيات الغربية المتاحة في المتاجر ومراكز التسوق القريبة لقاء مبالغ نقدية أو ائتمانية). ولا يحدّد المركز ما بعد الاشتراكي للفن المعاصر عمليّاته وفقًا للمنطق الضمني للفنون الجميلة أي وفق مسارٍ تاريخيٍ محدّدٍ للاحتراف والحرفة الفنية التي تنتج في المحصّلة أغراضًا جميلةً كما هي الحال في الاتحادات، وإنما يُنَصّب نفسه فوق حقل الإنتاج الثقافي برمّته بما يتضمّنه من أساليب وأنماط وأشكال للتعبير، فيعيد ترتيبه وفق تصنيفات معيّنة لأنواع الأنشطة والمشاريع.

وقد توزّعت أنشطة المركز النموذجي من مراكز سوروس للفن المعاصر لجهة الميزانية على ثلاث وجهات للإنفاق: التوثيق الفني والمعارض السنوية والمنح للفنانين. أمّا التوثيق فهو أحد الأسس التي نشأت من أجلها شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر، بدءًا من انطلاقة المشروع الصغير الذي حمل اسم "مركز سوروس لتوثيق الفنون الجميلة" في بودابست في العام 1985. وقد كانت المهمّة الرئيسية لهذا البرنامج — وهو نتاج تعاونٍ بين مؤسسة سوروس المجر حديثة العهد وبودابست موتشارنوك (صالة بودابست للفنون) — "دعم الثقافة المجريّة الحديثة المحظورة أو المهمشة من قبل السياسات الثقافية الرسمية، أي دعم الفنانين/ات المجريين/ات في الدوائر الثقافاية المضادّة".17

بناءً على ما تقدم، يمكن تتبّع جذور المراكز ما بعد الاشتراكية للفن المعاصر في سياق فعل التوثيق ومهمات تسجيل وحفظ الأحداث المهمّة في تاريخ الحداثة الثقافية المضادة (أو ما بعد الحداثة). أما التحوّل التاريخي نحو الفن المعاصر فقد حدث في العام 1991 عندما أعيدت تسمية مركز سوروس لتوثيق الفنون الجميلة باسم مركز سوروس للفن المعاصر بودابست. يُعتبر هذا المركز الأول في شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر التي كرّست وجودها وأهدافها وهيكليّاتها التمويليّة ثلاثيّة الأفرع وأنشطتها الأساسيّة في عشرين عاصمةٍ ثقافية من عواصم المعسكر الاشتراكي سابقًا خلال التسعينيات.

وقد أعلنت مراكز سوروس للفن المعاصر أهداف برنامجها التوثيقي على النحو الآتي:

"في معظم الحالات، تندر المعلومات الموثّقة عن الفنانين/ن الذين/اللواتي تختارهم/ن مراكز سوروس للفن المعاصر أو تنعدم تمامًا. لذا، تعمل مراكز سوروس للفن المعاصر على صياغة بيان وافٍ عن عمل الفنّان/ة المختار/ة بما في ذلك السيرة الذاتية والمراجع البحثية إضافةً إلى نسخٍ من المقالات ذات الصلة والفهارس المنشورة.. ويستفيد من هذه المعلومات كل من الفنان/ة والمقيّمون/ات ومؤرّخو/ات الفن والزوّار..."18

وباتت مراكز سوروس للفن المعاصر أوّل مؤسسات رسمية تُعنى بتوثيق أعمال الفنانين/ات الأحياء (أو المتوفين/ات حديثًا) في الدول ما بعد الاشتراكية. وكانت الاتحادات الآخذة في الاضمحلال قد سبق وأن فهرست أعمال الفنانين/ات الاشتراكيين/ات ولا سيما أولئك الذين/اللواتي اشتغلوا/ن تخليدًا للأبطال الاشتراكيين والأحداث الاشتراكية المهمّة، ولكنها لم تحتفظ قط بأي سجلّ للأحداث والفعاليات الراهنة والفنانين/ات المشاركين/ات فيها. أما توثيق الفعاليات المباشرة وفهرستها بالطريقة التي كانت متّبعة في الغرب منذ نشأة الفنون الزائلة واللامادية، فكانت تتمّ حصرًا في أوساط الفنانين/ات والنقّاد من دوائر "الثقافة المضادة" المحلية الذين/اللواتي أسسوا/ن أرشيفات غير رسمية من بينها مركز آرتبول للأبحاث في بوادبست وأرشيف موسكو للفن الجديد (MANI).

يؤدّي التوثيق في مجال الفن المعاصر دورًا أساسيًّا، ما يفسّر تولي المؤرّخين/ات الفنيين/ات والنقّاد مناصب المديرين/ات ووجودهم/ن ضمن الكوادر العاملة في شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر وفي مجالس إداراتها (على عكس الاتحادات التي كان يتولّى إدارتها الفنانون/ات). لذا بدت ممارسة جمع المعلومات المتعلّقة بالسير الذاتيّة والمراجع البحثية وتجميع قوائم بالأعمال الفنية ومجموعات المقتنيات الفنية والمعارض وشرائح العرض والمقالات (وكانت تُترجَم جميعها إلى اللغة الإنكليزيّة وتُتاح للفنانين/ات والباحيثن/ات وجامعي/ات الأعمال الفنية وتُرقمَن في بعض الأحيان لتُرسَل إلى مركز الأبحاث المتقدّمة في مجال الفنون البصرية في الغاليري الوطني في واشنطن)19، بدت نشاطًا جديدًا وغير مسبوق في مطلع التسعينيات. ففي دول المعسكر السوفياتي، كانت المؤسسات البحثية والأكاديميات والأرشيفات والمكتبات هي الجهات المخوّلة بجمع الوثائق المتخصصة حول الأفراد والأحداث والأنشطة الماضية. أما جمع المعلومات عن بعض الفنانين/ات الأحياء وعن الأحداث والفعاليات الراهنة فقد كانت تضطلع به إما لجان الأمن القومي (الكي جي بي) أو بعض الأوساط المحلية المناهضة لسياسة الدولة. ومع انهيار الدولة الاشتراكية، تسلّمت مؤسسة الفن المعاصر هذه المهمات وأدرجتها في إطارٍ من العمل التأريخي المهني للفن.

ولكن ما هو التوثيق الفني؟ يُعتبَر التوثيق الفني فرعًا من علم الوثائق الذي ظهر كحقلٍ دراسيٍ في النصف الأول من القرن العشرين كملتقى بين علم المكتبات والعلوم التوثيقية والمعلوماتية. وقد اعتُبرت نشأة هذا التخصّص الحديث أحد نتائج ثورة غوتنبرغ الطباعية والطفرة الحروفية لاحقًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما حدا بالعديد من البلدان الغربية في مطلع القرن العشرين إلى إنشاء هيئاتٍ ومؤسساتٍ توثيقية. 20وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، رأى المتخصصون في هذا المجال التوثيق وسيلةً ثقافيةً وأداةً لنشر قيم الحداثة الغربية في مختلف الفضاءات الثقافية والجغرافية.21 وقد سادت القناعة بأن التوثيق يهدف إلى رفد العلوم الإنسانية، فتمّ تمييزه عن التخصصات المعلوماتية المرتبطة بالهندسة والحوسبة. وكما تقول عالمة الوثائق الفرنسية سوزان بريت: "التوثيق بالنسبة إلى الثقافة كالآلة للصناعة"22، حيث تُعتبَر الوثيقة "المستنَد للوقائع" أي أنها من الوجهة النظرية تشمل "أي دلالةٍ ملموسةٍ أو رمزيةٍ (إشارة) محفوظةٍ ومسجّلةٍ لتمثيل واحدةٍ من الظواهر المادية أو الفكرية أو إعادة صياغتها أو إثباتها".23 ويشمل تعريفها لدى الاتحاد الفرنسي للمؤسسات التوثيقية "كل ما تستند إليه المعرفة المادية الثابتة .. والذي يمكن الرجوع إليه في سياق المراجعة أو البحث أو البرهان".24 وبصورةٍ عامة، فإن الوثيقة هي أثر الشيء الغائب (على سبيل المثال، الحمار الوحشي في السافانا الأفريقية هو ظاهرةٌ طبيعية، أما في حديقة الحيوان الأوروبية فما هو إلا وثيقة)، أو أثر ما فُقد واختفى من الوجود (كمثال الأجناس المهدّدة بالانقراض والتي لا وجود لها اليوم سوى في حديقة الحيوان).25 وممّا لا شك فيه أن المفكرين الذي تعاطوا مع الممارسات التوثيقية الحديثة قد ركّزوا في تحليلاتهم على مفهومي الحياة والموت الأساسيين. وبطبيعة الحال، تتّخذ الوثائق في الكثير من الأحيان أشكالًا لا ماديّة أو رقمية ولا سيّما في يومنا هذا مع انتشار تقنيّات التمثيل المتنوّعة حيث "يزداد الاعتماد على الأنماط الوثائقيّة "كبديلٍ عن التجربة المُعاشة"، فتنسج تلك الأنماط التمثيلية وهم التجربة المُعاشة (الأفلام والصور الفوتوغرافيّة وغيرها).26 وقد ركّز علماء الوثائق على فهم مدلولات الوثائق وعلاقتها بالواقع من خلال المنطق العقلاني الذي وظّفه نقّاد مطلع القرن العشرين أمثال والتر بنيامين للحديث عن علاقة العمل الفني الحديث بتقنيات الإنتاج الآلي.27

تلتقي ممارسات توثيق الفن المعاصر مع علم الوثائق لناحية الخلفية التاريخيّة والأسئلة المشابهة التي تحيط بهما. فقد رأى بعض نقّاد الفن (انطلاقًا من نظريّة بنيامين حول قابلية الفن الحديث لإعادة الإنتاج) أن توثيق الفن هو في الواقع بديل عن التجربة الفنية. "التوثيق الفني ليس فنًّا وإنّما مجرّد إحالة إلى مرجعيّة العمل الفني، وهو ما يؤكّد على أن العمل الفني لم يعد موجودًا أو متاحًا بصريًّا في هذه الحال وإنّما غائب أو مغيَّب".28 ويرتبط غياب العمل الفني أو تغييبه في مجال التوثيق الفني بالتحوّلات البالغة التي شهدها الفن في مرحلة ما بعد العام 1945 وبالصيرورات الثقافية التي تمخّضت عنها تحت شعار "تجريد" الغرض الفني من مادّيته (dematerialization) والذي نظّرت له لوسي ليبارد في السبعينيات. واستخدم جون روبرتس مفهوم "اللامادية" (intangibility) للوقوف على التحوّلات التي طرأت على طبيعة العمل في الفن إثر خروج دوشامب بفنه الجاهز في الستينيّات.29 (من المنظور التوثيقي العلمي، يمكن بين هلالين اعتبار مبولة دوشامب الشهيرة وثيقةً بحدّ ذاتها، أي غرضًا فقد وظيفته الأصليّة فتحوّل إلى رمزٍ أو أثرٍ أو غرضٍ معرفي). وقد بدأ التوثيق الفني بالتوجّه أكثر فأكثر نحو لعب دورٍ أكثر أهميّة على خلفيّة الانتقال من رؤية الفن كعملية إنتاجٍ للأشياء المادية الملموسة بالدرجة الأولى (لوحات أو منحوتات أو تصاميم غرافيكية تصويرية) إلى "التجارب" الفنية اللامادية أو المعنوية (الحركة أو الأداء أو المفاهيمية اللامادية). تستدعي هذه التجارب بصفةٍ ملحّةٍ ودائمةٍ وجود نوع من الإثبات ليؤكّد على ماديّة الفعل الفني. وقد لجأ النقد الفني المعاصر إلى وسائل عدّة لتفسير التحوّلات الجذريّة التي أفردت مكانةً مستجدّةً للوثيقة الفنيّة: من إعادة قراءة التأمّلات الهيغليّة في "موات الفن" إلى تتبّع تأثيرات هذه التغييرات في نمط الإنتاج الاقتصادي (الثورة الإداريّة)، ومن رثاء صعود "المجتمع الخاضع للإدارة بالكامل" إلى رصد التغييرات الجذريّة في طبيعة الحياة البشريّة تحت تأثير تكنولوجيات الحوكمة الحيا-سياسية المعاصرة".30

وعلى صعيدٍ آخر، فإن صعود ممارسات التوثيق الفني ترتبط عن كثب بالعمليّات السياسية التي تمخّض عنها القرن العشرين وبالانخراط العالمي في مشروع الديموقراطيّة وتبنّي مفهوم السوق. فلنأخذ على سبيل المثال تاريخ (وتسمية) "دُكيومنتا"، الملتقى الفني الأبرز على الساحة العالمية للفن المعاصر. ولتاريخ هذا المعرض ارتباط وثيق بالعمليّات السياسية التي راحت تتكشّف في ألمانيا الغربية بعدما وضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها، إذ تضافرت أهدافه الفنيّة مع البرنامج السياسي "للتحوّل الديموقراطي" الذي بدأت تشهده بلدان المحور الانتقالي في مرحلة ما بعد الحرب (إيطاليا والمجر واليابان وألمانيا الغربيّة). أي بعبارةٍ أخرى، اضطلع معرض "دوكيومنتا" بمهمّة "توثيق" تطوّرات التحوّل الديموقراطي والانخراط في السوق الحرّة وتقديم الإثبات الثقافي على قطيعة ألمانيا الغربية مع تاريخها الاستبدادي.31

يمكننا قراءة بدايات البرنامج التوثيقي لمراكز سوروس للفن المعاصر في إطارٍ مشابه، فقد كان من أبرز مهمّاتها إلقاء الضوء على التجارب الفنية "المُنحلَّة" التي نشأت في ظلّ الدولة الاشتراكية. فبالإضافة إلى اعتباره مساحةً بديلةً للمعرفة، في مقابل المكتبة والأرشيف، استُغلّ البرنامج التوثيقي لمراكز سوروس للفن المعاصر كوسيلة ترويج لنموذج الحداثة الغربية في إطار عمليّة الدمقرطة الشاملة. وكان لهذا البرنامج دورٌ مهمّ خلال المرحلة الانتقاليّة في ما يُعرَف "بإعادة كتابة التاريخ"، حيث سعت سرديات التواريخ المحليّة في إزالة التعتيم الإيديولوجيّ عن التحريف الذي لحق بالتاريخ الوطني والقومي. وكان لابدّ من تطهير التاريخ من أجل بناء هويّات ما بعد الاشتراكيّة التي ستدور لاحقًا في فلك الاستقطاب الهوياتي القومي.32 فقد اعتُبر التاريخ الاشتراكي "ملوَّثًا" أو "دعاية شيوعيّة" فكانت مهمّة المؤرّخ "التحديث" و"إعادة الإعمار" وكتابة التاريخ من منظورٍ "وطني".33 واشتملت هذه الحركة على الفن فاتّسمت العمليات الفنية التي تكشّفت عنها برامج التوثيق التي أرستها مراكز سوروس للفن المعاصر بوجهةٍ مماثلةٍ للعمليات التأريخية ضمن هذه الشبكة حيث لجأ مؤرّخو/ات الفن إلى التوثيق لتسليط الضوء على التجارب الفنية التي احتجبت في مرحلة الاشتراكية في عباءة تاريخ الفن الرسمي الإيديولوجية الكثيفة.34

لم تكن الوثيقة في تلك المرحلة الأداة المفضَّلة لدى المؤرّخين/ات فحسب. وبالعودة إلى مثال الحمار الوحشي، يمكننا أن نعتبر الفن المعاصر وثيقةً بالدرجة الأولى، نظرًا إلى تعذّر تصوّر شرعيّة العمل الفني في أحراش السافانا — أي خارج أبواب مؤسّسات الفن المعاصر. وقد اتّضح ذلك في أوروبا الشرقيّة في حقبة التسعينيّات. فعلى عكس فنّاني/ات الاتحادات الفنية الذين/اللواتي أمضوا/ين القسم الأكبر من وقتهم/ن في المُحتَرف الفني منكبّين/ات على صقل مهاراتهم/ن وإنتاج التحف الفنيّة، انصرف/ت الفنانون/ات المعاصرون/ات إلى تمضية أوقاتهم/ن في المكاتب منصرفين/ات إلى الممارسات ما بعد المُحتًرفيّة من توليف وتسجيل الفيديوهات وإعداد الرسوم التقنيّة لتركيب الأعمال في سياقاتٍ مؤسّسيةٍ متنوّعةٍ (على غرار الحمار الوحشي المُنقاد إلى حديقة الحيوان) أو مفاوضة على مشاريع جديدة وفرص للعرض في مؤسّساتٍ مختلفة. ولعلّ مراكز سوروس للفن المعاصر كانت المكان الذي شهد في التسعينيّات ولادة نوعٍ جديد من الفنانين/ات: الفنان/ة رائد/ة الأعمال.35 يدور هذا النوع ضمن تقسيمٍ مركّبٍ للعمل يركّز في معظمه على التعامل مع الوثائق.

-6-

الخطّة والمشروع. تقودنا صناعة التوثيق الفني التي عمّمتها شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر إلى مسألةٍ ثانية: الاختلاف ما بين الذهنيّتين الفنيّتين المعاصرة وما قبل المعاصرة.

ففي مرحلة الاشتراكيّة، كان لزامًا على الفنانين/ات الانخراط في عضوية الاتحاد والتعهّد بالالتزام بنظامه الأساسي وبالخطّة الاشتراكية للحصول على الامتيازات التي تقدّمها الجمعيّات المهنية ذات الطابع البيروقراطي. وكانت الخطّة الاشتراكية الخمسية تهدف إلى تنسيق الجهود والموارد المادية لتحقيق مقدارٍ أعلى من الإنتاجيّة ومستويات المعيشة. وكان الفنانون كسائر ممثلي المهن الأخرى ملزمين بتطبيق هذه الإجراءات الشكليّة كنوعٍ من التقليد الذي بات مع انهيار الاشتراكية موضع تهكّمٍ وازدراء. ومع دخول شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر إلى المشهد الفني في أوروبا الشرقية، بدأ أسلوبٌ جديدٌ من صياغة القصديّة الفنية يتبلور تحت عنوان "المشروع". وطُلِب من الفنانين الذين تعاونوا مع هذه المؤسسات في التسعينيات أن يقدّموا وثيقةً أو مشروعًا يفصّل بدقّةٍ النشاط الفني المقترَح وتطلّعاته وأهدافه وإطاره الزمني وميزانيته وفكرته وتنفيذه إذا كانوا يسعون إلى الحصول على المنح سواء كانت للسفر أو العرض أو لإنتاج فهرسٍ أو تنظيم أي نشاط آخر. وبات "المشروع" شرطًا أساسيًّا للاستحصال على الامتيازات والدعم من مراكز سوروس وغيرها من الممولين الثقافيين الغربيين الذين استهدفت أنشطتهم منطقة ما بعد الاشتراكية.

ما هو الفارق إذًا بين العمل وفق الخطّة الاشتراكية (أو تجاهلها كما فعل الكثيرون) وبين العمل وفق منطق المشروع؟ هذا ما كتبه إيليا كوباكوف على سبيل المثال في هذا الصدد:

تختلف المشاريع التي يقدّمها الفنانون المعاصرون اليوم بشكلٍ جذريٍ عن مشاريع الفنانين غير المحدّدة التي كانت في السابق. فقد كان الفنان في السابق عندما يُسأل: "ماذا تريد أن ترسم أو أن تصنع؟"، يجيب بهدوء: "سأبدأ العمل وسأرى لاحقًا". وعن سؤال: "متى تنتهي؟" كان يجيب: "إنها صيرورةٌ مستمرّة.." أما اليوم، فإن أي مقدار من الغموض في المشروع هو بمثابة إعلانٍ للهزيمة."36

والواقع أن ما يسمّيه كوباكوف "مشاريع السابق غير المحدّدة" لا يكاد يشبه المشاريع التي خاضها الفنانون الروس والأوروبيون الشرقيون بعد العام 1989 في شيء. ففي معظم أنحاء الاتحاد السوفياتي، كانت لفظة proyekt باللغة الروسية (التي دخلتها في عهد بطرس الكبير في القرن الثامن عشر بالتزامن مع أوّل عمليّةٍ انتقاليّةٍ شاملةٍ نحو التحديث والقيم الغربية)37 تُستخدَم بشكلٍ أساسيٍ في أوساط الخبراء التقنيين والعلميين. أما في المشهد الفني السوفياتي، فقد شاعت هذه اللفظة بين المعماريين دون الفنانين.

وانفرد المعماريون والمخطّطون المدينيّون بين سائر أصحاب المهن المرتبطة بالفنون بتحديد الفوارق بين "المشروع" و"الخطّة" واستجلائها من ضمن مجالات تخصّصهم. ففي التنظيم المدني والسياسيات المدينية وجميع الأنشطة المتعلّقة بالإدارة الإقليمية الرشيدة، ظهر الاختلاف بين المفهومين من ناحية الحجم والمقياس. فالتخطيط عمليّةٌ تستلزم اتّخاذ قراراتٍ واسعة النطاق بعيدة الرؤية وتنطوي على جهودٍ معقّدةٍ لتوفيق المصالح المتضاربة وتعزيز القدرات إلى الحد الأقصى، كما تستوجب تولّي المسؤولية حيال كمٍ هائلٍ من المعلومات والتفاصيل والأشخاص. وبالتالي فإن الخطّة (كأن نقول "الخطّة الشاملة" أو "الخطّة الخمسيّة") هي مقترَحٌ يتضمّن اتّخاذ قراراتٍ شاملةٍ واسعة النطاق تمتدّ عبر مساحاتٍ ومددٍ زمنيّةٍ ضخمة، أي أنّها مقترَحٌ كلّي يأخذ في الاعتبار مجموعةً كبيرةً من المتغيّرات والتفاصيل. وتتميّز الخطّة عن المشروع في تعبيرها عن المدى الزمني للأهداف المستقبلية. وبحسب قاموس أوكسفورد فكلمة plan أي خطّة تعني "المخطّط العام أو البرنامج الذي يُنفَّذ على أساسه مشروع ما".38 ويمكن تشبيه الاختلاف بين الخطّة والمشروع بالعلاقة بين العام (الكوني) والخاص أو بين المجرَّد والمحسوس. فالخطّة هي تمظهرٌ للقصديّة الكونيّة، كأن يُقال أن الله هو المهندس الأعلى أو الرقيب الأزلي ذو الخطّة الكونية (لا المشروع). وفق المنطق عينه تنطوي الخطّة الاشتراكية على بعدٍ كونيّ للاستشراف القصدي. ينضوي الاشتراكي في الخطّة الخمسيّة بغية تحصيل المنافع والامتيازات وفق الطريقة عينها التي يخضع بها المسيحي المؤمن للخطّة الكونيّة الإلهية من أجل استحقاق الخلاص.

ومن ناحيةٍ أخرى، يتّصل المشروع بالخاص الدنيوي العلماني، أو كما يُقال، بالخطّة الإلهيّة المصغّرة على مستوى المؤمن الفرد وفي إطارٍ متوائمٍ مع واقعه، بما يشبه إلى حدٍّ ما الشخصانيّة البروتستانتية. فالمشروع هو تحقيقٌ مبرمَجٌ وملموسٌ للخطّة وفق شروطٍ محدّدةٍ: "المشروع هو الواقع الذي ينتهي من الوجود لحظة إنجازه".39 "المشروع" هو تعبيرٌ عن العقلانيّة التقنية والنجاح والفاعلية والإنتاجية والموارد والمنطق الغائي والقيم الكميّة والمصالح الاقتصادية والتنفيذ الأداتي والتحكّم والإشراف على الأداء والعمليّات المصمّمة والمخطّط لها مسبقًا (وجميع هذه المفردات مستوحاة من الأدبيات الإدارية الهندسية المعمارية). "تتشارك المشاريع بالمجمل في عددٍ من الخصائص: فهي مبادراتٌ آنيّة غير متكرّرة، فريدة، محدّدة بأجل، موجّهة، هادفة".40 بعبارةٍ أخرى، المشروع هو مقترَحٌ يُعنى بالحاضر والراهن لشخصٍ حقيقيٍ يتحرّك ضمن واقعٍ إمبريقيٍ ملموسٍ وفق قوانين وقيود معدّة مسبقًا، على عكس الخطّة التي تستهدف الإحاطة والشمول والتي يصفها بالطوباوية المستحيلة النقاد البراغماتيون الاسمانيّون الرافضون للكليّات أو الأفكار المطلقة للاشتراكية أو للتخطيط الكلّي تحت مظلّة نظام الرفاه الاجتماعي. فالمشروع يُعنى فقط بما هو في المتناول، بالملموس والواقعي والممكن وبكل ما هو قابل للإحصاء والتخطيط والتنفيذ. عندما يكون المرء صاحب مشروع فتلك سمة العقلانيين البراغماتيين وروّاد الأعمال"الأذكياء".

بيد أن ذهنية المشاريع التي عمّمتها شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر لا تنحصر في مسألة المقياس. فقد ارتبط التفكير المشاريعي ببعض التيارات الفكرية الغربية ولا سيّما تلك التي جعلت الموضوعية الإمبريقية والتفكير الإيجابي والهادف والأغراض النفعية موضوع اهتمامها، وذلك قبل أن يتحوّل إلى أداةٍ أساسيةٍ من أدوات رأسمالية السوق الحرّة المعاصرة. ويقترب هذا النموذج الفكري من "منهج المشروعات" الذي ذاع في مطلع القرن العشرين بوصفه تقنيةً تربويةً مستقاةً من الفلسفة التربوية لدى البراغماتي الأميركي جون ديوي. وكان منهاج المشروع الذي يُقال له اليوم "مقاربة المشروعات" منهاجًا تربويًّا شائعًا في المؤسّسات التعليمية لبناءٍ فعّال للمجتمعات الديموقراطية. فالمشروعات تحضّ على تولّي المسؤوليّة الفرديّة وتبنّي التفكير الريادي والمنافسة، وتشجّع الطلّاب على تخصيص وقت أقلّ للنظريات التجريدية والتأمّلية والاستعاضة عنها بالتركيز على ما هو مفيد وملموس وهادف.41 وتعود جذور منهج المشروعات في الولايات المتّحدة الأميركيّة إلى مهندسي التنوير الإيطاليين الذين كانوا أوائل من اعتمدوا المشاريع progetti عشيّة ولادة الهندسة المعمارية كمهنةٍ مستقلّةٍ بذاتها وبعيدةٍ عن الطابع الحرفي الذي اتّسمت به حتى ذلك الحين.42 ولم تكن الاستفادة من هذا المنهج حكرًا على البراغماتية أو الذرائعية الأميركية. فقد تصدّر "المشروع" بعض تيارات الفكر القاري الإنسانويّة كالوجوديّة السارتريّة على سبيل المثال. ويستخدم سارتر لفظة "المشروع" للتعبير عن علاقة الذات الحداثية بالعالم، حيث يترابط كيان الشخص وأفعاله وتصرّفاته واختياراته على امتداد حياته ببعضها البعض في إطار "المشروع الأصلي" أو "السابق على كل ما عداه".43 فيصرّ سارتر في كتابه "الوجودية مذهب إنساني" (Existentialism is a Humanism) وفي كتابات أخرى على الإنسان الحداثي "مشروع" (وإنّما نحن مشروعٌ) إذ أن "الإنسان أساسًا شيء يمتدّ بذاته نحو المستقبل وهو يعي ذلك."44

ولكن لم يكن هذا المفهوم عن الذات الحداثيّة يحظى بالإجماع. فقد تأمّل جورج باتاي من جهته، وهو أحد أشدّ المدافعين في القرن العشرين عن الفعل غير المخطّط وغير الموجّه وعن التجربة غير المقيّدة الشهوانية المنتشية المتجاوزة واللاعقلانية، في التناقضات التي تنطوي عليها الذهنية المشاريعية وفي تداعياتها المحتمَلة على المسلكيّات الفنيّة بصورةٍ عامّة. يستخدم باتاي مصطلح المشروع في معرض نقده للعقلانية الحداثية والمنطق النفعي المحسوب الذي يدفع التجربة إلى الأمام ويرجئها ويعوّقها، وكذلك في سياق رفضه للعقلانية التي تُخضِع اللحظة الراهنة للمستقبل. يُؤثر باتاي الرسّامين على المعماريين، لأن الرسم يقتادنا بعيدًا عن العقلانية نحو "الفحش البهيمي"، وبعيدًا عن "القيود المعمارية" وعن الأشكال الهندسية العقلانية التي غالبًا ما ترضي السلطة الرسمية.45 وما التجربة الداخلية من حيث هي "مشروع" سوى تجربة مؤجّلة أو جاهزة أو معدّة مسبقًا تنصب هاويةً بين الحاضر والمستقبل عن طريق إخضاع هذا لذاك ("..الحيوانات تلتهم مباشرةً، الحيوانات تلتهم بنهم .. الحيوانات لا تمهل أبدًا..)46 تطعن تجربة باتاي الداخلية بالنفعية التي أطلق عليها نيتشه أخلاق العبيد، بروحية نيتشوية، ردًّا على المشروع-الذات السارتري (بحصافة لاكانية) قائلًا: "الإنسان ليس مشروعًا .. وإنّما توتّرٌ واضطراب ... كائنٌ خاوٍ".47

تحوّلت ذهنية المشروع القائمة على الفعل الموجّه والمحسوب إلى جزءٍ لا يتجزّأ من عقليّة الفن المعاصرة. فبعد العام 1989، بات على الفنانين/ات والمنظّمين/ات الثقافيين/ات (ولا سيّما الناشئين/ات منهم/ن) الذين/اللواتي تعاونوا/ن مع مراكز الفن المعاصر أن يتكيّفوا/ن مع هذا الأسلوب من التفكير وذلك من خلال حضور ورش العمل مع خبراء غربيين ليتعلّموا/ن كيفيّة صياغة المشاريع وسابقات الأعمال وتنفيذ الاستراتيجيات وإنتاج الوثائق وكتابة المقترحات والطلبات للحصول على المنح. وبات على الفنانين/ات من تلك اللحظة فصاعدًا أن يتعلّموا/ن كيفية الإدلاء بالتفاصيل حيال أعمالهم الفنية المستقبلية لكي يُنظّر في طلباتهم/ن للمنح (أو الاستثمارات عالية الاستدانة)، وأن يكونوا/ن على علمٍ مسبقٍ بما سينتجون/ن من الأعمال وبكيفيّة إنتاجها والأسباب الموجبة لذلك، وأن يفكّروا/ن في مدى توافق مشاريعهم/ن مع أهداف المؤسّسات الجديدة، وأن يدافعوا باستمرار عن نواياهم/ن الفنيّة أمام هيئات من المديرين/ات والمقيّمين/ات.

ولا شكّ أن موجة النقد المؤسّسي التي شهدناها خلال العقد الأول من القرن الحالي في بلدان ما بعد الاشتراكية كانت مدفوعةً بفعل ما أسماه روّاد هذا النقد التقانة الفاقدة للروح للتحديث ما بعد الاشتراكي. ساهم تطبيق منهاج المشاريع في مجالات الفنون في إحداث تغيير ما في السمات الأساسية للمهن الحرّة. لم يرُق هذا المنهاج على سبيل المثال لأولئك الذين اتّخذوا صفة الفنّانين/ات كي ينخرطوا/ن في تجربةٍ لطالما عُرفت منذ عصر الرومنطيقيين بغموضها وجموحها ولامحدوديتها وعفويتها الفردية ونزقها وخوائها واستغلاقها وبعدها عن التوقّع. يجد الفنان اليوم صعوبة، إن لم تكن استحالة، في العيش بلا مشروع أو بلا رأس (كما في لوحة أندريه ماسون الشهيرة على غلاف مجلّة باتاي، Acéphale) أو أن يلازم تلك الوضعية البريئة من "التحويم الإبداعي" أو "الخمول" (بالعودة إلى كوباكوف) التي غالبًا ما اعتبرها فنّانو/ات ما قبل المعاصرة، الرسميّون/ات وغير الرسميّين/ات منهم/ن من المسلّمات. ويفترض من فان غوخ هذه الأيّام الطامح للشهرة أن يقدّم مقترح مشروع يحدّد مسبقًا جدولًا زمنيًّا يتضمّن اللحظة التي سيُصاب فيها بالجنون، وكيفيّة حدوث ذلك، وكيف ومتى ولماذا سينتهي به المطاف إلى قطع أذنه.

رأى باتاي أسوةً بالعديد من نقّاد الذهنية المشاريعية أنها سمة أساسيّة من سمات النشاط الرأسمالي.48 ويتّفق في ذلك مع الجيل الذي سبقه من المنظّرين/ات النقديين/ات الذين/اللواتي رموا/رمين الوضعية الحداثية والمنطق الذرائعي بتهمة إفقار التجربة وجعل كل ما هو جديد متوقَّعًا أو قديمًا. فعندما تتصدّى النظرية النقدية لذرائعية الفكر، فهي عادةً ما تشير إلى استبدال الإجراءات المنهجية الهادفة بالخيال والمنطق بالحس وردود الأفعال المتوقَّعة بالانفعالات الجيّاشة.49 ومع ذلك، لا يجوز التسرّع في الحكم بناءً على قناعة بأن خلف منهاج المشاريع مجموعة من القوى والمصالح التآمرية، وإن كان يصعب في الوقت عينه التغاضي كليًّا عن التناقضات الطبقية والسمة الاستعلائية للعلاقة بين صانع التحديث ومتلقّيه. والحال هي أن "عقلية المشاريع الجديدة" تشير إلى تحوّلاتٍ اجتماعيةٍ أشمل تجري وفق برنامج التطوّر وإيديولوجيا التنوير الغربية الأوروبية. كما أنه بإمكاننا مقاربة هذه التجربة "المشاريعية" الناشئة في سياق منطق الفن المعاصر ما بعد الاشتراكي من منظور الروحية النيولبرالية التي تتخلّل عمليّة التحديث الأوروبية الشرقية. وبالتالي، فإن مفهوم "المشروع" الذي غزا قاموس الفنانين/ات خلال عقد التسعينيات بفضل مؤسسات انتقالية كشبكة مراكز سوروس للفن المعاصر، ما هو إلا دلالة على صعود ذهنيةٍ جديدةٍ ذات جوهر اقتصادي.

في كتابه The Birth of Biopolitics، يستعرض ميشال فوكو تطوّر الممارسات الحوكمية الحديثة النابعة من الفكر النيولبرالي، مشيرًا إلى أنه مع صعود فن الحوكمة النيولبرالية بات يُنظر إلى المجتمع باعتباره مجموعًا من الوحدات الاقتصادية: الفرد والعائلة والمجموعة والجماعة وحتى مفهوم المجتمع المدني أثير الفكر اللبرالي50 - يقيّم جميعها بالدرجة الأولى وفقًا لمدى نجاحها في إدارة أحد أشكال التجربة المتوقَّعة والتحكّم بها وإدخالها حيّز التحقيق. إلى ذلك، ينبذ فن الحوكمة النيولبرالية النموذج الاشتراكي (وأي نموذجٍ آخر) للتدخّل الحكومي أو التخطيط الشامل بوصفه مثاليًّا، معتبرًا أن لا سلطة سيادية ولا دولة ولا قائدًا حزبيًّا (أو رئيس اتحاد للفنانين) قادرًا على النظر من أعلى إلى السوق بكلّيتها أو إلى الحقل الثقافي.

-7-

خاتمة. لا أحد يستطيع التملّص من المشاركة في هذا المسرح الاقتصادي ما بعد الاشتراكي، بما فيهم الفنانون/ات (المعاصرون/ات). بل يتحتّم على هؤلاء أسوةً بالآخرين الخضوع للمنطق الريادي المسيطر والدخول في منافسةٍ بين التجارب الثقافية المتوقَّعة.51 وعلى خشبة هذا المسرح، تصبح الذهنية المشاريعية والتوثيق الفني (باختلاف وسائطه) تقنية الفن المعاصر الأثيرة. علاوةً على ذلك، لا بد من التذكير بأن بعض دوائر النقد الفني قد نظرت إلى تيارات الفن المعاصر الغربي الرائجة أمثال فن المشاريع والفن المفاهيمي على أنها برهان على التحوّلات الاقتصادية قريبة العهد. واعتبرت المفاهيمية الفنية بوجهٍ خاص من مآلات تحوّلات أنماط الإنتاج الرأسمالي في مرحلة ما بعد العرب العالمية الثانية وحصيلة ثقافية للثورة الإدارية – الأمر الذي يصعب على العديد من الممارسين الثقافيين تقبّله.52

ومن منظور تاريخي (ومن خلال منظور التحقيب)، تتماثل مسيرة صعود الفن المعاصر في بلدان ما بعد الاشتراكية مع عمليات التحديث التي سبق أن جرت في الغرب خلال النصف الثاني من القرن الماضي. ولعل منطق ما بعد الحداثة الذي يُنظَر إليه على أنه ردّ على الحداثة الطوباوية ونتيجة لما أسماه النقّاد "مأسسة" (إيغلتون) أو "تدجين" (هاوسِن) الحداثة يدنو في بعض الأحيان من أهداف تلك المؤسسات الفنية المستجدّة. ففي الولايات المتحدة الأميركية، عمد مديرو/ات أبرز مؤسسات "الفن المعاصر" الرائدة إلى صياغة أهدافها المؤسسية بالتواؤم مع جوهر مبادئ لبرالية ما بعد الحرب. فقد سعوا/ن على سبيل المثال إلى بناء تحالف أشدّ متانة بين الفن والتجارة والصناعة، أو عمدوا/ن إلى النأي بالفن عن الراديكالية السياسية التي اتّسم بها "الفن الحديث" في مرحلة ما قبل الحرب. وقد كان استبدال مصطلح المعاصر بالحديث فعليًّا مدفوعًا في بعض الأحيان من الدعوة النيولبرالية.53 كذلك أذن ظهور الفن المعاصر في أوروبا الشرقية بإزالة الضوابط أو بالانقضاض على آخر حصون الحداثة التاريخية وممارساتها المؤسسية والسياسية والجمالية، مع فارق أنه في هذه الحالة كان المستهدَف هو النسخة السوفياتية من التحديث والحداثة الثقافية القائمة من الناحية الفنية على نظام "الفنون الجميلة" البائد للإنتاج الحرفي الماهر، ومن الناحية الإيديولوجية على عقيدة الواقعية الاشتراكية التي باتت محنّطة، والتي ترعاها مؤسسيًّا اتحادات الفنانين القروسطية الطابع.


[1] الإحالة هنا إلى كتاب Terry Smith, What is Contemporary Art? (Chicago: University of Chicago Press, 2009) إضافة إلى عددين خاصين من مجلّة e-flux journal مخصَّصين لمناقشة هذا السؤال. يرجى مراجعة e-flux journal, 11 and 12 at: http://www.e-flux.com/journal.

[2] تربط بعض الأدبيات مصدر تسمية ال"الفن المعاصر" التحقيبيّة إلى الاستراتيجيات التسويقية التي استحدثتها اثنتان من أبرز دور المزادات في بريطانيا في النصف الثاني من القرن الماضي. على سبيل المثال يرجى مراجعة Elisabeth Couturier, L'art contemporain, mode d'emploi (Paris: Filipacchi, 2004), 22.

[3] على سبيل المثال يرجى مراجعة Hans Belting and Andrea Buddensieg, The Global Art World: Audiences, Markets, and Museums (Ostfildern: Hatje/Cantz, 2009).

[4] Fredric Jameson, Postmodernism, or the Cultural Logic of Late Capitalism (Durham: Duke University Press, 1991).

[5] عن "الرأسمالية العمديّة" (capitalism by design)، يرجى مراجعة Claus Offe, Capitalism by Democratic Design? Democratic Theory Facing the Triple Transition in East Central Europe, in Uta Gerhardt (ed.), German Sociology (New York: Continuum, 1998).

[6] يخلط القرّاء الغربيون غالبًا بين مراكز سوروس للفن المعاصر ومؤسّسات سوروس (أو مؤسسات أوبن سوسايتي). مراكز سوروس للفن المعاصر (SCCA) أو اختصارًا "مراكز سوروس" هي برامج إقليمية مستقلّة من ضمن مؤسسات سوروس المحليّة. للاطلاع على موجز لتاريخ شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر يرجى زيارة موقع C3 في بودابست (http://www.c3.hu/scca/) (تاريخ زيارة الموقع 12 أيلول/سبتمبر 2010).

[7] للمزيد حول الثورة الإدارية في مجال الفنون يرجى مراجعة Paul DiMaggio, “Social Structure, Institutions and Cultural Goods: The Case of the United States” in ed. Gigi Bradford et al., The Politics of Culture: Policy Perspectives for Individuals, Institutions, and Communities (New York: New Press, 2000).

[8] للمزيد حول حقبات التمويل الثقافي ما بعد الفوردية يرجى مراجعة John Kreidler, “Leverage Lost: Evolution in the Nonprofit Arts Ecosystem,” in Bradford et al, The Politics of Culture.

[9] يرجى مراجعة Robert Brustein, “Coercive Philanthropy” in Bradford et al, The Politics of Culture. وأيضًا Andrea Frazer, “A Museum is Not A Business. It Is Run in a Businesslike Fashion,” in Nina Möntmann, Art and Its Institutions: Current Conflicts, Critique and Collaborations. (London: Black Dog Publishing, 2006).

[10] وقعت على هذا التوصيف في نص للناقدة الفنية الرومانية أنكا أوروفينو بعنوان “Cele doua modele," في Arta العدد 1-2، 1993، ص. 1-4

[11] أستند في هذا القسم من النص حيث أجري المقارنة بين مراكز سوروس للفن المعاصر واتحادات الفنانين بشكل أساسي على الواقع المعاش في الاتحاد السوفياتي سابقًا والذي خبرته عن كثب إضافة إلى تجربتي الشخصية كمدير مؤسّس لمركز سوروس للفن المعاصر في كيشينيف، مولدوفا.

[12] لاستعراض موجز لاتحادات الفنانين السوفياتية يرجى مراجعة M. Lazarev, “The Organization of Artists’ Work in the USSR” في Leonardo, Vol. 12, No 2 (Spring, 1979), 107-109.

[13] Umberto Eco, The Open Work (Cambridge: Harvard University Press, 1989).

[14] Thierry de Duve, Faire école (Paris: Les presses du réel, 1992).

[15] يأتي تعبير "الشروط الخارجية" (outward preconditions) من الكتاب الشهير للودفيغ فون ميسLiberalism (1927). يقول المؤلّف أن اللبراليين غير معنيين بالسلع ذات الطابع الروحي لأنهم يؤمنون بأنه "لا يمكن المس بأسمى وأعمق ما في البشر عن طريق الضوابط الخارجية". وبالتالي، فإن الموقف اللبرالي من دعم الفنون يعنى فقط بتوفير "الشروط الخارجية لارتقاء التجربة الباطنية". للمزيد يرجى مراجعة .” Ludwig von Mises, Liberalism: the Classical Tradition (Indianapolis; Liberty Fund, 2005), xx.

[16] للمزيد حول تاريخ الروابط الحرفية يرجى مراجعة Maarten Praak et. al., Craft Guilds in the Early Modern Low Countries (Aldershot, UK: Ashgate Publishing, 2006), 231.

[17] http://www.c3.hu/scca/index.html (تاريخ زيارة الموقع 15 حزيران/يونيو 2010)

[18] شرح مفصّل لأنشطة شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر. (وثيقة معدّة للتداول الداخلي في مكاتب شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر)

[19] المصدر نفسه.

[20] يرجى مراجعة Suzanne Briet, et al., What is Documentation (Lanham, MD: Scarecrow Press, 2006).

[21] المصدر نفسه، 58.

[22] المصدر نفسه، 17.

[23] المصدر نفسه، 9-10.

[24] المصدر نفسه، 10

[25] كمثال على الوثيقة، تورد بريت رواية عن جنس جديد من الظبيان اصطاده أحد المستكشفين في أفريقيا فأحضره إلى حديقة النبات، المصدر نفسه.

[26] المصدر نفسه، vii.

[27] رونالد إ. داي في المصدر نفسه، vii.

[28] Boris Groys, Art Power (Cambridge: MIT Press, 2008), 60.

[29] John Roberts, The Intangibilities of Form: Skill and Deskilling in Art after the Readymade (London; New York: Verso, 2007).

[30] لتكوين مفهوم حيا-سياسي حول التوثيق الفني، يرجى مراجعة Art Powerلبوريس غرويز.

[31] للمزيد حول الأهداف السياسية للدورة الأولى من "دُكيومنتا (1955) والدور الذي أدّاه في عمليّات الدمقرطة ما بعد الحرب (كتقديم الفنانين/ات الذين واللواتي اعتبروا/ن "منحلين/ات" خلال الثلاثينيات)، يرجى مراجعة فهرس الدورة الأولى من دُكيومنتا (كاسل، دروك فيرلاغ، 1955)

[32] يرجى مراجعة Ulf Beunnbauer, (Re)Writing History – Historiography in Southeast Europe after Socialism (Münster: Lit Verlag, 2004).

[33] المصدر نفسه، 21.

[34] ظهر العديد من المنشورات في العقود الأخيرة في إطار إعادة كتابة التاريخ ما بعد الاشتراكي، من أبرز الأمثلة عليها فهرس Experiment الذي أنتجه مركز سوروس للفن المعاصر بوخارست في العام 1997. يرجى مراجعة Magda Cârneci (ed.), Experiment in Romanian Art since 1960 (SCCA Bucharest, 1997).

[35] لمناقشة أكثر إسهابًا حول هذا المصطلح يرجى مراجعة John Roberts, The Intangibilities of Form, 11-13.

[36] Ilya Kabakov et al., Dialogi: 1990-1994 (Moskva: Ad-Marginem, 1999), 157. (الترجمة الإنكليزية للمؤلّف)

[37] يعود أصل كلمة proyekt وفق معاجم الإيتيمولوجيا الروسية إلى الكلمة الألمانية projekt وترجّح دخولها إلى اللغة الروسية في عهد بطرس الأكبر. على سبيل المثال يرجى مراجعة Max Vasmer, et. al., Etimologicheskii slovar russkogo iazyka, Izd. 2., Stereotipnoe, v chetyrekh tomakh. ed., 4 vols. (Moskva: Progress, 1987). v. III, 373.

[38] "plan" في قاموس Oxford English Dictionary، http://oed.com/view/Entry/145022 (تاريخ زيارة الموقع 4 تموز/يوليو 2011).

[39] Roberto Gerundo, “Salerno: A Daring Approach to Town Planning” in Urbanistica 122, December 2003, (28-44), 35.

[40] Kenneth Allinson, Getting There by Design: An Architect's Guide to Design and Project Management (Oxford; Boston: Architectural Press, 1997), 7.

[41] على سبيل المثال يرجى مراجعة William Heard Kilpatrick, The Project Method: the use of the purposeful act in the educative process (New York: Teachers College, Columbia University, 1929).

[42] على سبيل المثال يرجى مراجعة Michael Knoll, “The Project Method: Its Vocational Education Origin and International Development,” in Journal of Industrial Teacher Education, 34/3 (1997).

[43] يعرّف قسم "المدخل إلى الاصطلاحات الخاصة" (Key to Special Terminology) في ملحق كتاب ساتر "الوجود والعدم" (Being and Nothingness) المشروع على الشكل الآتي: "المشروع ذو وجهين فعل واسم. فهو يشير إلى اختيار ما لذاته في أسلوب كينونته ويُعبَّر عنه بالفعل في ضوء الهدف المستقبلي" Jean-Paul Sartre, Being and Nothingness. (New York: Washington Square Press, 1966), 776.

[44] Jean-Paul Sartre, Existentialism is a Humanism (New Haven: Yale University Press, 2007), 23. وأيضًا يرجى مراجعة كتاب سارتر Situations I (Paris: Gallimard, 1966), 187.

[45] يرجى مراجعة Georges Bataille. et al., Encyclopædia Acephalica: Comprising the Critical Dictionary & Related Texts (London: Atlas Press, 1995), 36-36.

[46] Georges Bataille (trans. Stuart Kendall), The Unfinished System of Nonknowledge (Minneapolis: University of Minnesota Press, 2001), 126.

[47] Peter Bürger, The Thinking of the Master: Bataille between Hegel and Surrealism (Evanston: Northwestern University Press, 2002), 35.

[48] Fred Botting and Scott Wilson, Bataille: A Critical Reader (Oxford: Blackwell Publishers, 1997), 204.

[49] للمزيد حول نقد المنطق الذرائعي يرجى مراجعة Max Horkheimer and Theodor[50] Adorno, Dialectic of Enlightenment (New York: Herder and Herder, 1972).

[50] Michel Foucault, The Birth of Biopolitics: Lectures at the Collège de France, 1978-79 (New York: Palgrave Macmillan, 2008).

[51] يتطلّب البحث في تأثير الذهنية المشاريعية على السلوكيات الفنية والجمالية تحديدًا نقاشًا مطوّلًا. للمزيد من التفاصيل حول ظهور مصطلح "المشروع" في لغة المفاهيمية الروسية يرجى مراجعة Octavian Esanu, Transition in post-Soviet Art; “Collective Actions” Before and After 1989 (Budapest: Central European University Press, forthcoming).

[52] يرجى مراجعة Benjamin Buchloh, “From the Aesthetic of Administration to Institutional Critique (Some Aspects of Conceptual Art 1962-1969),” in L'Art Conceptuel, Une Perspective: 22 Novembre 1989-18 Fevrier 1990, (Paris: Musee d'art moderne de la ville de Paris, 1990). وأيضًا يرجى مراجعة Joseph Kosuth and Seth Siegelaub, "Joseph Kosuth and Seth Siegelaub Reply to Benjamin Buchloh on Conceptual Art," October 57 (1991).

[53] تعدّ مؤسسة بوسطن للفن المعاصر من أوائل مؤسسات الفن المعاصر الكبرى، وقد أعيدت تسميتها في العام 1947 (من "الحديث" إلى "المعاصر") . أثارت إعادة التسمية موجة من الجدل في الدوائر الفنية عُرفت لاحقًا باسم "قضية بوسطن". يرجى مراجعة Institute of Contemporary Art, Dissent: The Issue of Modern Art in Boston (Boston: Institute of Contemporary Art, 1985).
لمقارنة موجزة بين شبكة مراكز سوروس للفن المعاصر ومؤسسة بوسطن للفن المعاصر يرجة مراجعة Octavian Esanu, The Transition of the Soros Centers to Contemporary Art: The Managed avant-garde (2008), available on-line at http://www.contimporary.org/project/view/10.


أوكتافيان إيسانو هو مقيّم غالريات الجامعة الأميركية في بيروت حيث أشرف على افتتاح اثنين منها. قيّم وألّف أعمالًا حول الممارسات الفنية الحداثية والمعاصرة في لبنان والشرق الأوسط ومواضيع أخرى حول تقاطعات هذه الممارسات مع تيارات الفن العالمي. عمل أوكتافيان قبل انتقاله إلى لبنان في البحث والتأليف مركّزًا على التحوّلات التي شهدها الفن ما بعد السوفياتي والشرق أوروبي إثر سقوط جدار برلين. وقد أسّس وأدار وقيّم مركز سوروس للفن المعاصر في كيشينيف (مولدوفا) خلال التسعينيات. إيسانو حائز على الدكتوراه من جامعة ديوك.