ربما قاد الفراغُ إلى التشاغل بغير مهمّ
-أبو الفرج الأصفهاني، أدب الغرباء

أنا أنتظر فإذًا أنا أعشق. لا يُعرّف العشاق أنفسهم إلا بهذا التعريف الفاجع: أنا تلك التي تنتظر.
-رولان بارت، شذرات من خطاب في العشق (باب الانتظار)

عندما دُعيتُ إلى الكتابة في هذه السلسلة التبستْ عليّ كلمة «إرجاء»، فقام لاوعيي بتصحيفها إلى «رجاء». أعيش هذه الأيام تعطيلًا متواصلًا وفراغًا مليئًا باللغط، معدًّا كي يصطنع لدي شعورًا واهمًا بجدوى الوقت الذي أمضيه في هذا العجز، فأقتات الأمل كما أقتات الغذاء. تذكرت كلام الشدياق عن القَلْب والإبدال في اللغة العربية، أي ظاهرة التجانس بين الحروف المتأتية من «حكاية صوت»[1]، عن أن التجانس بين الألفاظ عنصر أساسي في اللغة العربية وليس محض صدفة. فكرت في أنّ الرجاء قد يكون قلبًا للإرجاء، فنرجو ما لم يحدث أو يتحقّق بعد، أو نستديم أمرًا لا يمكننا ضمان إدامته، وكذلك الأمل قد يكون قلبًا للملء، فيتولّد عند الحاجة إلى ملء شعور بالفراغ أو لاستدامة ما لا نريد فراغه. كيف لا؟ فبغير ذلك ما تولّدت فينا حاجة إلى الرجاء ولا للأمل.

حلّ الإبدال أو الاستبدال واحتل مساحة أوسع من ذي قبل، خاصّة مع الزووم الذي ألغت حفلاته الافتراضية نظيرها المادي، فحاولت استحضار مناخ الحفل تعويضًا عن الغياب الجسدي للضيوف. أنظر إلى هذه الحفلات كاستعارة للواقع، إذ تعرَّف الاستعارة في البلاغة على أنها رفعُ الشيء وتحويله من مكان إلى آخر. حفلات الزووم بكثافتها وإصرار المشتركين فيها على جعلها صورة طبق الأصل للقاء مفترض استعارة عن إقامة حفل على أرض الواقع، مثلها مثل السايبر-سكس (وهو من النشاطات المجسدة للإرجاء بامتياز) فتحصل الإثارة لدى المشاركين بصفتها استعارة لما يخيّل إلينا أن تكون عليه ممارسة الجنس مع هذا الشخص لو كان/ت على مقربة جسدية. أتساءل: هل ما أعيشه الآن تعطيل أم إرجاء؟ إذا كان الإرجاء تأجيل أمر ليُستأنف لاحقًا، فالتعطيل يدلّ على إيقاف الفعل ويشير إلى عرقلة تحوّل دون استئنافه. لذلك يصبح تساؤلي وجيهًا: هل أعيش إرجاءً أم تعطيلاً؟ هل أجلت كل ما خطّطت له إلى حين انقضاء الأزمة؟ هل أصبحت حياتي معطلة بازدواج الدلالة؛ بمعنى أنا في عطلة، في فترة من الزمن أتوقف خلالها عن العمل بإرادتي بغيةَ الاستراحة؟ من منّا لم ترغب ذلك قبل حلول الجائحة؟ معطّلون نحن بازدواج المعنى ومعرقَلون قسريًا؛ حياتنا معطلة وفي الوقت نفسه نعيش كأنّنا في عطلة لا نعرف لها نهاية.

أتأمّل الإرجاء فتحضرني العلاقة بين الكتابة خطًّا والكتابة طباعةً. في ما يخصّ فعل الكتابة، لا أخال إحداهن أو أحدهم قد جلستْ أمام صفحة بيضاء أو شاشة بغرض التأليف ولم تمر بمرحلة المماطلة التي يمكن اعتبارها إرجاءً ذاتيًا لِما نَهاب القيام به. أعزو هذه المماطلة لهيبة أو لرعب ينتابنا عند مواجهة مساحة بيضاء سواء أكانت مبكسلة على الشاشة أم ملموسة على صفحة الورق. أيهما أكثر إثارة للرعب، صفحة ورقية بيضاء أم مساحة رقميّة بيضاء فارغة؟ أيهما أكثر مهابة؟ تحدّث رولان بارت في حوار صحفي عام ١٩٧٣ عن أهميّة الكتابة بقلم الحبر، ولا سيّما قلم الحبر السائل: «لننظر إلى حركة الكتابة. قد أقول إنّه تربطني علاقة تشبه الهوس بأدوات الكتابة الخطية،» ثمّ يتابع: «أعود دومًا إلى أقلام الحبر السائل الجيدة. يهمني أنها تساعدني على الكتابة بانسياب وهو ما لا استغني عنه أبدا.»[2]

لا يناصر الحبيب بارت الكتابة بقلم الحبر فحسب، بل بقلم يجب أن يكون وقعه وانسياب حبره على الورق سلسًا ناعمًا يبعث المتعة والراحة في يد الكاتب/ة، فلا يطيق الكتابة ب«حيالله» قلم حبر، أي أقلام الحبر الجافّ التي بخشونة وقعها تنتج كتابة سطحية سقيمة لا تحسن سوى النسخ المباشر وتخلو من أي مضمون حقيقي. يجلب هذا الاتصال السلس الناعم والمباشر بالصفحة متعة في عملية الكتابة تنتقل لتَسِم فحوى كلماته.

وكما أزعم، فالعلاقة بين الطباعة والكتابة بخطّ اليد تتسم بالإرجاء، فالكتابة فعل جسدي بقدر كونها فعل ذهنيّ، ويؤثر أدائها الجسدي في ما تثمره. تنساب الجمل والأفكار عندما أكتب على الورق كانسياب الحبر نفسه، وتتولد فيّ حالة أكثر خامة وأقلّ تناسقًا، لكنها تتدفق؛ فاليد موصولة بأداة الكتابة، وأداة الكتابة بدورها لا تنفكّ تلامس الورق. لا أزعم هنا أن علينا جميعًا الكتابة بخط اليد، فإّذاك أكون من المنافقات وأنا أطبع هذه الكلمات على لوحة مفاتيح. إلا أنّ توليد الأفكار لا يستعصي عليّ بالدرجة نفسها عندما أواجه صفحة بيضاء مقابل شاشة بيضاء، إذ يزول من أمامي عائق الإرجاء، فأصنع بيدي ما أحاول قوله عوضًا عن تخيّله أمامي بالنقر، فيتحوّل الكلام رقميًا أمام ناظري، وفي المقابل، استسهل التنقيح على الشاشة كمن تصقل منحوتة أو بناء.

حاول بارت أن يتحوّل إلى استعمال آلة كاتبة لينسخ عليها ما كتبه بخط يده تنازلًا لمتطلبات الطباعة والنشر الحديثة، واعترف أن للكتابة طباعةً عفوية خاصّة تخلق بدورها جمالًا خاصًا. إلا أن غواية القلم لم تغادره، فاعترف بإدمانه جَمْعَ الأقلام، وبضعفه أمام قلم يستحسنه، فيشتريه بلا مقاومة.[3]

اعتدت اليوم على لوحة المفاتيح حتى أني بتّ أخشى نسيان الكتابة بخط اليد، ليس فقط بالعربية بل بالإنجليزية كذلك! وها أنا «قفرت حالي»[4] ووجدت نفسي أتعثر أثناء إيصال ألف لام التعريف بما سبقه، وأستهزئ بحالي لمّا أجدني «عتلانة همّ» أني لم أتقن بعد خطّ الرقعة بينما الحقيقة تكمن في ما ذكرته سلفًا. وهكذا هو الانغماس؛ أنقر أزرارًا لتنوب عن حركةٍ أو اسمٍ أو فعلٍ أو عبارة وأنا لم أتوصل إلى إجادة هذه الأفعال أو الحركات أصلًا.

أطبع على الشاشة «ال» التعريف وأتخيّل اتصال اللام بما يليها، أي أؤدّيه في ذهني بدل أن أقوم بالفعل إلى أن تظهر أمامي متصلة. لكنني لا أصنع الحركة بالفعل، فكل الضربات على لوحة المفاتيح تشبه بعضها، وبالتالي، فأرجئ ذلك الاتصال حتى يقوم الحاسوب به نيابة عني. لكني أجد أمام الورقة فجوة بين إدراكي كيفيّة رسم الحروف لأشكّل وأصيغ الكلمات، وبين قدرة يدي على مواصلة تحقيق ذلك. بصرف النظر عن الأحكام الأخلاقية من قبيل لوم التكنولوجيا وإهمال الأصول وإدمان الحاسوب، تكمن المسألة الأساسية في اتصال وانفصال الحروف العربية، إذ علينا ونحن نكتبها بخط اليد مواصلة تحريك القلم على الورقة بلا انقطاع وإلا تلفت الكلمة التي ننوي كتابتها، بينما نواجه العكس أثناء طباعتها رقميًا، فلا يتسنى لنا أن «نكتب» الحروف المتصلة بشكل متواصل، كما يفترض أن نكتب بالقلم، أي وصل اللام أو الميم أو السين بالحرف الذي يليها بحركة متواصلة كما نفعل خطيًا. هذا برأيي «يخربط» ما تعلمته من «فك الحرف» العربي لأنني في أغلب الأحيان أطبع العربية ولا أكتبها، أي أطبع كل حرف من حروف الكلمات على حدة ليقوم الحاسوب عوضًا عن يدي بمهمة وصل الحروف المتصلة كما يلزم لتتشكل الكلمة أمام ناظري على الشاشة. وهكذا أصبحت أشعر بأن عملية التفكير عندي تجري بلغة مكوّنة حصرًا من حروف منفصلة فيما كانت سابقًا خليطًا من القطع والوصل قبل أن تخربط الرقمنة نظامها.

لعلّ هذه الظاهرة تحيلنا إلى مفهوم الـ différance عند جاك دريدا الذي يدلّ على الاختلاف والتأجيل أو الإرجاء في نفس الوقت،[5] نحت دريدا المصطلح من كلمتي differ (اختلاف) و defer (تأجيل أو إرجاء) «للإشارة إلى لعب الدّوال الدّائم ووقوع المدلولات في شبكة الصّيرورة. فالنّصّ ما هو إلا آثار (traces) لمعانٍ منتشرة في نصوص أخرى، بحيث يمكن للقارئ الفَطِن أن يرى كيف تظهر آثار المعنى هذه وتختفي وكيف يتمّ تأجيلها في النّصّ نفسه.»[6]

يبدو لي أنّ دريدا يوافق الجاحظ في أنّ الكتابة تزيح الكلام، أي مضمون ما يُكتب عن راهنيّتها: «اللسان مقصور على القريب الحاضر والقلم مطلق في الشاهد والغائب وهو للغابر الحائن [الفاني] مثله للشاهد الراهن. والكتاب يُقرأ في كل مكان ويدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه ولا يتجاوزه إلى غيره.»[7] إذا أخذنا بعين الاعتبار بُطلان هذه المعادلة بعض الشيء بعد اختراع الإذاعة المرئية والصوتية، فإن قراءة المكتوب (حتى ولو على الشاشة) ما تزال تفرد لنا تلك الفجوة الزمنية (أي الإرجاء) بين لحظة التعبير وبين لحظة تلقّيه لدى القارئ/ة، حيث نتلقى حُكمًا نحن معشر القرّاء التعبير وقد أرجئ وصوله إليها، وليس من بُعد بصري أو سمعي كما هو الحال مع التلفزيون أو الراديو في عملهم على إرجاعنا إلى راهنية القول أو اصطناعه لنا، حتى ولو كان البث مسجلًا. يحمل هذا الإرجاء في طياته إمكانيات ثورية كما يحمل إمكانيات رجعية لا يمكننا دائمًا أن نتحكم بها.

لكن في ما يخص العربية، يكمن ضرب من الاستلاب في كيفية كتابتها وحتى بخط اليد، أو على الأقل، في كيفية كتابتنا لها، إذ نضع النقاط على الحروف المتشابهة لكي نميّزها عن بعضها. كان النُسّاخ القدامى يكتبون مخطوطاتهم بحروف مهملة (بلا نقاط) لكي يسهّلوا على أنفسهم الكتابة المتواصلة، ويلحقون بكلمة معينة عبارة «بالجيم المعجمة» (مثلا) لكي يسهّلوا على القارئ تميز الكلمات المتشابهة. إذًا تعيدنا الطباعة في حالة العربية إلى نوع كتابة أقرب إلى نسخ المخطوطات، فلا نتمهل وضع النقاط على الحروف أثناء الطباعة كما لم يتوقف النساخ كي لا يكسروا إيقاع خطهم. الفرق الوحيد هو أن الحاسوب يعفينا من عناء إضافة العبارة التي تميز الإعجام عن الإهمال من أجل القارئ والتي أصلًا لم يجهد النساخون أنفسهم دائمًا على كتابتها. تخيّلوا لو كان علينا أن نكتب بالتشكيل الكامل، وأقصد هنا الكتابة العادية وليس في أجناس بعينها ككتب الأطفال أو الشعر، وحتى في الشعر لا يجب أن نشكّل كليًا وكأننا نقلد القرآن، ليس من باب الورع إنما توخيًا للخفة وسلاسة إيقاع الكتابة والقراءة معًا. لو فعلنا لازداد الاستلاب لدرجة تكفيرنا عن اللغة مرة وإلى الأبد!

إذن ليس من باب الصدفة أني بدأت أستمتع خلال هذه الحالة بقراءة الكتب المطبوعة والابتعاد عن قراءة المواد المنشورة إلكترونيًا، كنوع من مقاومة فيضان كل هذه المواد التي تدفّقت علينا لملء الفراغ (المزعوم) في حيوات الناس، فراغ كان متواجدًا أصلًا في دواخلنا وأرغمنا الحجر على مواجهته، فلا يعد مفر منه في زحمة الحياة اليومية.

من ناحية أخرى، أفكر في أنوثتي التي تحيلني دومًا إلى ما يقع خارجها؛ إحالة متصلة بالمُحال الذي يعيدنا بدوره إلى المستحيل. وعلى كل حال، جندري دائم الإحالة إلى أمور أوسع، فمثلًا، يأخذني القلب والإبدال الناتجان عن التقارب اللفظي إلى التأرجح بين الأنوثة والرجولة بلا ثبات ، فأصبح التأرجح إرجاء للرجحان. هذا ما أزعمه في ما يخص فكرة أصالة هويتنا نحن معشر اللامعياريين جندريًا، فأصالتنا تكمن في تحوّل هويّتنا الجندرية بلا ثبات.

في حالتي أنا، إذا كنت منتمية إلى طائفة من الطوائف، فلا طائفة لي سوى تلك التي يطلقون عليها حول العالم «ترانس»، وكانوا في العربية يترجمونها حتى وقت قريب «متحوّل-ة». إلا أنّ الأصوات المستهجنة بهذه المفردة كثرت في السنوات الأخيرة داعية إلى استبدالها بكلمة «عابر-ة» إذ تشدّد هذه المفردة على «أصالة» هويتنا الجندرية وفي كوننا لم نتغير عما كنا عليه في الصميم، بل «عبرنا» جسديًا ليُماثل جسدنا وهيئتنا ما كان ولا يزال ثابتًا في جوهرنا (بالإذن من ثوابت أدونيس وتحوّلاته!). أما أنا، هل أقف مع «العبوريين» أم أبقى مع «المتحوّلاتية»؟ لم أستطع حسم موقفي، وربما لم أعد أرغب بحسمه. إلا أنّ حالة العطل المتواصلة التي نعيشها عطّلت أيضًا هذه الثنائية عندي وأعفتني من الخيار. لكنني وبعد حين (أم أقول بعد إرجاء؟) استدركت وسألت نفسي لعله بإمكاننا استبدال متحوّلة بمستحيلة؟ أي أن نبقى ضمن نفس الجذر الثلاثي ولكن ننزاح من وزن تفعّل إلى استفعل. نقرأ في علم الصرف أن صيغة استفعل تفيد ثلاثة معانٍ: الطلب (استكتب)، ووضع صفة على المفعول به (استحسنه)، وأخيرًا التحوّل من حال إلى حال (استنفد فلان المال). وعندما نأتي إلى فعل استحال نجد أنه لا يندرج تحت دلالة واحدة بل تحت دلالتين من هذه الدلائل الثلاث. استحالة الأمر تعني إرجاء تحققه إلى ما لا نهاية وهذا ما أزعمه بخصوص جوهر هويتي الجندرية، فهي دائمة الاستحالة، أي في تحوّل من حال إلى حال، فيمسي التحقق من أصالتها مستحيلًا.

لقد ذكرت العرب قديمًا إنّ المستحيلات ثلاث: الغول والعنقاء والخل الوفي، وأضيف أنا عليها رابعة: الجندر الأصيل لدى الإنسان (وربّما كذلك الجانّ). أرجئ اكتشافها، إذ أشعر أنّ الاستحالة تليق بي أكثر من التحوّل، وهي أدقّ وصفًا لتجربتي الجندريّة؛ ففعل استحال على وزن استفعل من جذر ح–و–ل أيضًا يحمل معنى التغير من حالة إلى حالة. ثمّ أنّ فكرة التحوّل، توحي بأني انتقلت من أمر إلى أمر آخر، فمثلًا كنتُ ذكرًا/رجلًا فقررت أن أصير (أي أتحوّل) امرأة. إلا أنّني ومع مضي الزمن توصّلتُ إلى قناعة أنّي لستُ بعابرة من حال إلى حال، بل أنا ما أنا، في مكان ما، قائمة أو متأرجحة بين الرجولة والأنوثة، أو ربّما خارجهما في موقع يستحيل تحديد إحداثيّاته على خارطة الجندر بدقّة. بذلك المعنى، لستُ متحوّلة بل مُستحيلة. فالبتّ في ماهيّتي – جندريًا على الأقل –مُرجأ دومًا، أي مستحيل، إلى أن تتحوّل حالي إلى أخرى. فإذا كان الإرجاء لا يساوي دائمًا تعطيلًا بل أحيانًا هو ما نرجوه، ورُبّ استحالة حالة مرجوّة.

ليس من الصدفة أن النظر والانتظار مشتقّان من نفس الجذر الثلاثي، والانتظار على وزن افتعل. يَرِد الفعل «افتعل» في اللغة بمعنى الاختلاق والتزوير، كأننا بانتظار افتعال نظر يستحيل فيه الفعلي أو الملموس. وكذلك العشق، إذ يحتوي في جذره الثلاثي على الجذر الثنائي المضاعف «شقّ» الذي يدل على التقطيع أو التمزيق، وكأن العشق مآله القطيعة والصرم بدل الجمع واللقاء. لا يجد الشدياق غرابة في ذلك، فيزعم أن الثنائي المضاعف هو أصل الكلمات أصواتًا ومعانيَ، فيكتب أنّ «الألفاظ تتولد من الثنائي المضاعف بالقلب والإبدال كما تتولد الأبناء من الآباء وتتناسل.»[8]

رجعت إلى القاموس وبحثت عن معنى التعطّل، فوجدت أنه التجرّد من الحليّ أو الزينة، والعُطُل هو القوس بلا وتر، فقلت إنّ اللقاء مُرجأ والوسيلة معطّلة. يجردني البقاء في المنزل معظم النهار عن الرغبة في التزين ويجعلني هذا التعطيل عاطلة عن الوصال. استوعبت بعدها أنّي كتبت كل هذا محاولة مني لإدامة الرجاء إلى أن أتمكن من وصل تلك الحبيبة. فعندما تُحرم بدون سابق إنذار من وصل من تحبّ، تصبح الأيام بمثابة انتظار الفرج. جرّدت الجائحة جعبتي من أوتار أشدّ بها قوسي لأرمي المعشوقة مجددًا بسهم الحبّ، فأنتظر الفرج بل حتى القيامة، وارتجي مع هذه العاشقة الهندية قيامها عاجلًا إذا كان من شأنها أن تعجّل من قدوم الحبيبة، أو كما قال أبو الطيب: «زوّدينا من حُسن وجهك ما دامَ / فحُسن الوجوهِ حالٌ تحولُ».[9]

شكر خاصّ من صميم القلب لكل الذين رافقوا هذا النص في مراحل مختلفة من إنتاجه: ليزن على مراجعته الشاملة وتنقيحه الدقيق، لوليد على ملاحظاته التحريرية القيمة, لبكرية التي وجهتني نحو مصادر لا غنى عنها وللارا على مساعدتها في ترجمة الاقتباسات الواردة بالفرنسية. لولاكم لما أُنجز هذا النص.


1-الشدياق، مقدمة سر الليال في القلب والإبدال

2-La Méthode de Travail de Roland Barthes, Le Monde du 27 septembre 1973

3-نفس المصدر

4-(أي ضبطت نفسي متلبسة)

5-دريدا، الكتابة والاختلاف ت. كاظم جهاد

6- أنطونيوس نادر، قراءة في تفكيكية جاك دريدا

7- الجاحظ، مقدمة البيان والتبيين

8-مقدمة سر الليال

9-أي، متّعينا بالنظر إلى وجهك فحسن الوجوه حال تذهب ويتبدل جمالها ويزول مع الكبر


سونيلا موباي إنسانة مركّبة الجندر والانتماء، مشطورة اللسان، تتراوح لغة أحلامها بين العربية والإنكليزية. نالت الدكتوراه من جامعة نيويورك في الأدب العربي برسالة حول الصعاليك في الشعر العراقي عام ٢٠١٨. تعمل الآن كاتبة مستقلة ومترجمة بين الانكليزية والعربية والأردو. يروق لها أن تصف نفسها بأنها هندية الأصل، أميركية الجنسية، شامية اللسان، بيروتية الهوى وفلسطينية القلب.