سرديات طرابلس – بيروت والمهجر: عن حياة تنزّ ببطء وبأوساخ كثيرة
صهيب أيوب وفادي العبد الله
ف.ع.
يأتي هذا النقاش متابعة للقاءٍ في فرانكفورت العام الماضي، حيث قرأنا أنت وأنا، من نصوصنا عن طرابلس، شعراً ورواية، كما تحدثنا كلّ عن كتابة الآخر. أذكر انني أشرت انك، بمعنى ما، مرآة أرى فيها ما خفي عليّ من مدينتي لأننا، على تشابهنا في أمور كثيرة، على تعارض في الموقف بإزائها. إذ ربما سمح لي كوني أسنّ منك بخمسة عشر عاماً بالتعرف إليها في وقت لا يزال يسمح بالاندماج فيها، وبرؤيتها من خلال عائلات تقليدية ومحافظة، وبالنظر إلى صورتها من مسافة تسمح برؤية البحر والتراكيب الكبيرة لها. بينما، يلوح لي، انك تظل عكارياً وسورياً بنفس مقدار كونك طرابلسياً، ما يمنحك موقعاً فريداً وثرياً، وأنك تنظر إليها، تفاصيل وشخصيات، بعدسة مكبرة ودقيقة، كما أن مثليتك الجنسية أتاحت لك رؤية ليلٍ مختلفٍ غير محافظٍ ولا منفي من المدينة. وإذ نشترك، أنا وأنت في البعد، إلا انك منفيّ وأنا مغترب، فأنت تعود إليها في خيالك كل يوم، وانا أعود جسدياً كل عام لأصطدم بالموت والخراب المتوسع باستمرار.
كتبتُ نصي ذاك مباشرة بالانكليزية، لأول مرة. لم يكن قراراً واعياً، لكن ربما حاجة أملاها شعور الاغتراب، وكان ذلك أيضاً في وقتٍ باشرتُ فيه كتابة رواية بالفرنسية، أيضاً لأول مرة. قد لا تكون بحت مصادفة، لكن إشارات إلى تغيّر في علاقتي بالكتابة. فربما بحثت عن لغةٍ يعبّر ترددها وهزالها عن موضوعها هذا. لكننا نتحاور اليوم لننشر في اطار بيروتي بدعوة كريستين طعمة، وإن كان النشر على الشبكة. هذا يطرح عليّ مواضيع عدّة أرغب في استكشافها معك.
لنبدأ من طرابلس. لطالما كانت المدينة بالنسبة لي موضوعاً شعرياً لأنها نقطة تقاطع مسارات اللغة والتاريخ والذكريات ومكان التقاء الغرباء وقصص الحب واكتشافات الجسد والطعوم والحواس. طرابلس تحديداً غنية بمثل هذه التقاطعات، أو كانت. لكنني أشعر أنك، حتى الآن، تتفادى تقاطع هذه المسارات، وتقوم بما قد أسميه "حصر إرث"، رصد وتصنيف وتبويب ما توارى أو يتوارى منها، ولكن في وحدات منفصلة. ربما لا تقوم الرواية، وهي فنّك، من دون مثل هذا المجهود في حين يكتفي الشعر بالطاقة المنبثقة من اصطدام المسارات الآنف ذكرها.
ص. أ.
سأعترف لك بداية، أن ما قرأته في فرانكفورت لم أدرك أن فجوته التي أحدثها في داخلي، جعلتني أفتح ما هربت منه على مدى ست سنوات من منفاي. وهو باب يفضي إلى جنون ما كنت أظن أنه بهذه الرهبة في حياتي الجوّانية. اتاحت قراءتنا معاً، وضعي في تماس أعمق مع مشاعر منهوبة أتحسسها كسكاكين على رقبتي، ففي كل مرة أبتعد عن المدينة، زمنياً، أجدني أخترعها. أحتفظ بها. أرقمها، مثل عامل هندسي يحاول بالدقة المطلوبة منه أن يكون أميناً على تاريخها، ومن حيث لا أدرك أمحو ما عشته فيها من شاعرية محزونة، مركزاً على بهاء ما أعطته لي، وتبادلناه سراً وعلانية فيما بيننا. وكأن هذا التنازع اليومي مع ذاكرتي، حولني بصرياً إلى ذاكرة غير موجودة، لا مكان لها سوى في الرواية. وهذه الرواية في شخوصها تصنع أدوات المقاومة. إني أقاوم بهذا التأريخ والفجاجة والمخيال، ما أعرف أنه مات. المدينة الميتة التي في صناعتي لها أذكر أيضاً أنها لم تعد. وأقاوم من خلال التسطير والتدوين والاحتيال على الوقائع، صناعة نفسي عبرها. تلك النفس التي ماتت فيها. تلك التي تركتها خلفي. صهيب المدمّى في طرابلس، الذي عاش في ظلالها، مثل زهرة سوداء. كنت أعيش المدينة هناك بكل واقعيتها، لذلك نسيت أني أستطيع أن أقيم علاقة شعرية معها. ربما علاقتي بباريس شاعرية. يا لهذه الكليشيه بنت العرص. لكن فعلاً أنا في باريس، أكثر شاعرية. أكتب شعراً على الورق بين مقاهي الرصيف وفي ساحات مونمارتر الصغيرة وأدراجها. في باريس، أخرج من تسكعاتي الليليّة بقصيدة أو بذراع رجل. في طرابلس لا مكان للشعر. كنت في مصنع الواقعية التي جعلتني اليوم أعيد تركيبها بخيال يرسمها أكثر جلالاً.
واعتقادي أن استعادتي للمدينة في ترصدها وبناء شخوصها المنكسرة متأت من أني عشت في احتراقها وانزوائها. كان الصحافي الذي أمسك بيدي طوال فترة بقائي فيها، قد جعلني أرى جثث شبانها العائدين من حمص، قتلى انفجاري المسجدين، كنت اضطر إلى مواجهة بكاء نسوتها من أمهات بعض المفجرين، الجهاديين المفترضين، ملاحقاً قصصهم في بيوتهم الخربة. كنت لا أرى الشعر مثلما كنت لا أرى البحر. كنت هناك في الزواريب أخيط ألمها ووحشيتها ودمويتها ومقتلتها. لا مكان للشعر في المقبرة. في المقبرة تعداد ووصف وسينما. الشعر يكمن خلف أسوار المقبرة أو ما تحاول هذه المقبرة أن تفرزه. واليوم في خيالي عنها أعتقد أني أريد لهذه المقبرة أن تخرج ما عاصرته ونسي. أو تم طمسه عمداً او مع مرور الوقت. أحاول أن استخرج أسماء مشايخها، مجانينها، كتابها، نسائها، عاملات الجنس فيها، العابرين والعابرات جندرياً فيها، و"طانطات" التل، مرتادي سينمياتها وصالات البورنو والموتيلات، ذاكرتها المسحوقة بأصابع ثوارها: علي عكاوي، دولة المطلوبين. روادها من الأقضية الذين جربوا الحياة فيها وانصهروا بخيوطها. أنا أبني في الخيال ما كنته فعلاً، أرمم جثث المقبرة وأشياءهم وذاكرتهم، وربما من دون قصد قد تفلت مني قصيدة متفجرة بالدم، قصيدة طويلة وطويلة جداً عن مدينة تحيا في جلدي ولم أتخلص منها.
ف.ع.
المدينة الميتة تغذي خيالاً وكتابات كما يفعل الموات بالأرض. لكن المدينة أيضاً ـ وهذه معضلتها ـ حيّة ولهذا فهي تعاني. آخر انتفاضاتها في ثورة تشرين كانت مبهرةً للكثيرين، لكن ليس لمن كانوا، مثلنا، على اطلاع بنسيجها الداخلي، أي بكونها تتضمن عناصر المدينة من اختلاط وأساطير وعصبية وتاريخ وقهر واكتمال الصدفة الهندسي الذي يشكل علاقتها وعمارتها المتنافرة.
يمكن أن نعدد إلى ما لانهاية هذه العناصر، وأن نجري حصر الإرث لما تركته في نفوسنا أو في كتب الرحلات إليها التي ما عاد أحد يقرؤها. لكننا نعرف أن في رثاثتها بهاءً نتزود منه. معضلتها النافرة دوماً في قلقها المستمر، في كونها شامية وسورية وشمالية وبحرية ولبنانية بحساب لم يتفحصه أحد، في كونها إمارة من المهمشين والناقمين والطيبين.
بحرها ليس شعراً، فاطمئن. البحر فسحة الهروب، الشعر كما أفهمه مواجهة. أما لماذا ينبجس فيك الشعر في باريس وليس في طرابلس فذلك لأن الألم يتعتّق ولأن طرابلس منحتك الجرح الذي ترمي عليه ملحك حتى تلعقه. وانت تشكرها كثيراً في روايتك.
الرواية فسحة أخرى، ليست مواجهة ولا هروباً، هي فرط العالم لعله، عندما ينهار، يصبح أكثر قابلية للسكن فيه. وعندما تفرط طرابلس، كما تفرط رماناً، يتناثر دم كثير في روايتك.
في كتابتك وكتابتي ربما محاولة لفرط ما يبدو للناظرين بديهياً عن هذه المدينة، أي الكشف عن مياه تجري تحت أساساتها، على اختلاف ما بيننا. هنالك، وراء الصورة، عائلات ونزوح، ومثليين وعشاق، وحروب ومجازر في الأسواق وعلى المداخل ونساء هن قوة خفية، وهنالك روابط مستمرة تشد طرابلس إلى الجبال وإلى حمص وأرواد واللاذقية وقلعة الحصن، في حين لا يكاد يرد ذكر بيروت إلا مرفقاً بشعور الغبن العميق.
ربما علينا أن ننظر، من المسافة التي يوفرها لنا بعدنا بحراً كاملاً عنهما، إلى الكيلومترات الثمانين ونيف التي تفصل هاتين المدينتين، لنرى ربما من مأساة كل منهما ما قد يربط بينهما بشكل خفيّ ومناقض لكل تصريحات الوحدة الوطنية.
ص. أ.
أعدتني إلى القلق، قلق المدينة المستمر، في هوياتها. لعلني أضيف أنها أيضاً تقيم، كما حال المدن القريبة من الجبال، في ريفية مدينية مندمجة خسرتها معظم المدن. قد نظل نجد في المدينة خياط الشراويل الآتي من بشري، واللحام الآتي من الحدث، ومنجد الصوف النازل من حصرون والخياطة الماهرة الآتية من كفرعبيدا، وبياعات اللبن الآتيات من سهل العبدة وبياعات القرصعنة النازلات من جرد عاصون.
ولأن طرابلس بقيت إلى وقت قريب، منعطفاً لا بد منه لسكان أقضية بشري وأهدن وزغرتا والكورة والمنية والضنية وعكار، وإلى وقت ليس ببعيد لسكان البترون، فإن هذه الخاصية أضافت لها ما يمكن أن يجعل من الكتابة عتها أشبه بصناعة جادة عن فهم طبقات المدينة فهماً يشابه فهمنا لمدن "عاصمية". أي مركزية. ومن هنا ربما لما لم يجد الريفيون أحلامهم التي بحثوا عنها في طرابلس، فإن المدينة توجت كإمارة للمهمشين والناقمين. ولهذا وجدناها ثائرة ومتجددة بتثويرها وخطاب ثوارها، ومبتعدة عن خطاب حزبي وشللي.
وتثويرها شارك فيه نازحون، سوريون وفلسطينيون يشكلون جزءاً هاماً من نسيجها الحديث وخلفيته كنسيج حاضن. نحن في هذه المدينة نتفاخر أن معظم امهاتنا أو جداتنا سوريات. كما أننا على تماس مع الفلسطينيين الذين نزحوا إليها بين مخيمين هما على تخوم هذه المدينة: البداوي والبارد، وعائلات طرابلسية تصاهرت مع الفلسطينيين. هذا الخليط يجعل السردية الطرابلسية سردية غنية لكنها مهمشة، ومكملة للتهميش الذي تعاني معظم مدن لبنان. ربما صار الوقت لإزاحة هذا الخطاب الذي يلوم العاصمة والذي كنت أنا الطرابلسي أعاني من وطأته سابقاً. فنحن في الداخل الطرابلسي نتحدث عن بيروت كقوة صراع مع طرابلس وهو ما بدا لي لاحقاً مغلوطاً. المدينتان على ما تقول أنت بحوار دائم. ربما علينا أن نحكي عن هذا و"نفصفصه". أعذرني سأضطر إلى ملاحقة طبخة اليوم، الشيش برك. انتظر رسالة منك.
ف.ع.
علينا ربما أن نفصفص أولاً مصدر طبخة الشيش برك! يقال ان كل الطبخ باللبن أصله من آسيا الوسطى وجلبه الأتراك. أنت تعرف أيضاً أن المطبخ أحد مصادر تشاوف الطرابلسيين على البيارتة.
بالطبع، هنالك اعتزاز طرابلسي يستمد من التاريخ ما يستثمره في تعويض بؤس الواقع، فطرابلس المدينة المملوكية الهامة، وقبلها إمارة بني عمار، ومن ثم كونها طويلاً مركزاً لإيالة عثمانية تمتد من حدود حلب إلى جبيل حتى منتصف القرن التاسع عشر، كل ذلك يتم استعراضه باستمرار في مقابل حداثة عهد بيروت العربية بالعز الذي يتم ربطه تحديداً بأنه أخذ من حصة طرابلس، وتحديداً منذ رسم حدود لبنان "الكبير"، أي لبنان الجبل الذي كبّره الفرنسيون باقتطاع الجنوب والبقاع وبيروت، وطرابلس وجزء من حدودها السابقة، أي بعزلها عن مداها السوري المعتاد. من هنا عادة يرسم الطرابلسيون مسار انهيار مدينتهم الاقتصادي، في لبنان مكرس لخدمة بيروت والجبل، يأخذ منهم دور المرفأ والتجارة مع سوريا، ويمنحهم وعوداً لا تتحقق، أو تتوقف مبكراً في مصفاة نفط ومعرض دولي.
ربما حان الوقت لتجاوز الكليشيه البيروتي عن طرابلس التي هي مقصد للراغبين في الحلويات فقط، خصوصاً بعد مرحلة ٧١ تشرين حين كانت طرابلس الأكثر لمعاناً في الاعتراض وحيويته. لكن أيضاً ربما حان الأوان لننظر بشكل مختلف إلى المسافة بين المدينتين، وربما إلى انواع المسافة بين المدينتين. فهنالك مسافة في الواقع، جغرافية، حيث الأرض بعد لكنها أيضاً مجال التماس واللقاء، وهناك مسافة في التصورات عن الذات وعن الأخرى. لم يعتد الطرابلسيون قبل ٧١ تشرين التفكير في ما قدمه لبنان لهم، على علّاته الكثيرات، ورغم إفقار المدينة النسبي خلال دولته التي اكتمل قرنها الأول، من تعليم وحرية واختلاط شكّلت جميعها بعضاً من الحماية ضد ابتلاع الوصيّ السوريّ للمدينة وأنشؤوا لها سينمات ومجلات وجرائد ومقاهٍ وجامعات ربما تكون أنت من أكثر الناس دراية بتواريخها. وكانت بيروت بالنسبة إليهم غالباً منقسمة بين البيارتة الأصليين، النسخة الأفقر مطبخاً وأكثر حرصاً على المال منهم، والآتين إليها من كل صوبٍ مما يسمح بالقول مع أحد الشعراء الجنوبيين إن "ما في مدينة اسمها بيروت، بيروت عنقود الضيع"، وإنها بالتالي هجنة واختلاط مريبان، ونسوا بالطبع أن طرابلس نفسها مدينة مختلطة وهجينة ومشرعة منذ قرون للبحر كما للجبل، مثلما نسوا أن حرمان لبنان لهم كان في جزء منه أيضاً انعكاساً لرغباتهم في التعالي عليه والانقطاع عنه حنيناً إلى ماضٍ أكثر "امبراطورية".
أما بيروت فربّت صورتها التي قفزت فيها من العهد الروماني ومدرسة الشرائع، إلى كونها عاصمة ومرفأ مشرعاً على البحر والغرب والحياة الحديثة والمصارف والمستشفيات والملاهي والاختلاط الذي أثار حتى ريبة البيارتة القح مثل عمر الزعني الذي تحسر على أفول بيروت وغروب شمسها في حين انها لم تكن بعد قد عرفت عصرها الذهبي. ترافقت صورة بيروت عن نفسها مع الصورة التي رسمها كل الآتين إليها من المناطق ومن الدول العربية كواحة للحريات، فريدة عواصم المشرق ودرّة المتوسط الوهّاجة، والتي كان عليها طبعاً أن تكسف بالضرورة أي نور قريبٍ منها، فلم تعترف بأي فن أو ثقافة أو تاريخٍ من خارجها يحمل أسماءً أخرى، وانزوت في هذا الخطاب أي مساحة متاحة لما هو غير الاسطورة (البعلبكية أو الجبلية) فلم تكن خطابات العشق والهيام ببيروت لتتقبل كلاماً عن طرابلس أو البترون أو النبطية أو صيدا أو عكار. طمست سردية بيروت، التي كأنها وُلِدت من ذاتها، سائر المناطق واكتفت بالنظر في مرآتها، حاجبة البلد حتى الحرب الأهلية، التي أعادت اكتشاف تواريخ المناطق الخاصة، فظهر مؤرخون للجنوب والنبطية وطرابلس، وظهر شعراء كتبوا عن صيدا وصور والنبطية ودير قانون النهر وغيرها. بمعنى ما، كانت سنوات الحرب الأهلية الأولى سنوات التحرر من أحادية بيروت، لكن هذا التحرر لم يدم طويلاً. هؤلاء المتحررون من بيروت ما لبثوا ان استسلموا لمقاهيها وجرائدها، محمولين على جناحين متعارضين ومتكاملين: بيروت المقاومة أساساً في وجه الاحتلال في ٢٨٩١ ومن ثم بيروت الفينيق الاقتصادي مع سنوات الحريري الأب.
هكذا كانت بيروت عندما عرفتها في ٥٩٩١ مجدداً تختطف كامل السردية اللبنانية وتختصر فيها كل الروايات والحكايات، إلى حد أن رواية عن زغرتا كانت تبدو بمعنى ما فلكلورية أو اكزوتيك كما روايات ماركيز، أما الحياة فكانت في المولات والجامعات والأسواق والحداثة التي كانت تتقدم غير متنبهة إلى عدم لحاق سائر البلد برأس العاصمة الذي أصبح أثقل بكثير من القدرة على حمله. لكن بيروت التي عرفتُها كانت في هذه الحركة بالذات تقبل من يفي بشروطها ويلعب اللعبة بحسب القواعد التي تمليها. فكان سهلاً عليّ أن اعثر فيها على أشباهٍ لي من كل المناطق، هم في المحصلة من صاغوا وجه بيروت الثقافي والفني في تلك الفترة. لست أعلم كيف كانت تجربتك أنت فيها، لكن على أية حال أحسب ان هذه السردية قد انهارت تماماً الآن، بسبب الدور المتنوع الذي لعبته المناطق في ٧١ تشرين واختناق بيروت نفسها بفعل الانهيار المالي والخدماتي وانفجار المرفأ، وطردها لعدد كبير من أبنائها الذين فقدوا أعمالهم أو بيوتهم أو مستواهم الاقتصادي. في مثل هذه اللحظة، قد يكون مهماً أن يعاد النظر في علاقة العاصمة بالمناطق وبسردياتها وتواريخها وروايتها بل وفنونها. قد لا يكون هنالك إمكانية لاستبعاد بيروت بالكامل، لكن إعادة تركيب لبنان على قياسها أصبح وهماً محالاً.
ص. أ.
عليك أن تخبر خالتي ليلى، التي عاشت في بيروت ردحاً من الزمن عن الطبخ البيروتي. هي إلى الآن تتندر (على طريقة معظم الطرابلسيين) بأن مطبخ بيروت هزيل. "شو بقلبو شحودتي؟" على ما تردد دوماً ساخرة. ولكني اكتشفت أن لبنانيين كثراً لا يعرفون شيئاً عن مطبخنا الذي يتشابه مع المطبخ السوري واليوناني والتركي وحتى البلقاني والأرمني. وهو مطبخ اندمجت به كل الوصفات بفعل التمازج الذي عاشته طرابلس كمدينة تاريخية عامرة بالسكان والنشاطات الإنسانية على مدى قرون. هذه الوصفات التي حدثتها النسوة الطرابلسيات على مدى عصور. هناك وصفة على سبيل المثال تتناقلها خالاتي من أمهن اللاذقانية ندى، التي انتقلت في ثلاثينيات القرن الماضي إلى طرابلس، وأخذتها من جارتها الطرابلسية في حي المولوية حول إعداد الملوخية، والتي إلى اليوم اعتمدها في شقتي الباريسية. أجيال تتناسل وتتوارث وصفات مطبخية وتقدسها. ومن هنا ربما يفتخر الطرابلسيون أنهم حافظوا على أن لديهم وصفاتهم الخاصة، وهي بطبيعة الحال وصفات معدلة من مطابخ حلب ودمشق وإسطنبول ومدن عريقة، في أزمان كان الجميع يعانون من استعمار الأتراك عليهم ويتلاقحون مع ثقافات وأقليات وأثنيات تقاربت فيما بينها. مثلاً يتفاخر الطرابلسيون أنهم عدلوا على نسب الدهنيات في المحاشي عكس الشوام والحلبيين، وزادوا الثوم في طبخات اللبن عكس الطبخ الاسطنبولي، وتكارموا بنسب الكزبرة في البامية، وتفننوا بعجينة الشيش برك التي تسقط فوراً باللبن من دون قليها، وهو أكبر تحذير طرابلسي قد تسمعه من طباخيها.
دعني أعبر عن انزعاجي من اختزال طرابلس بحلوياتها من قبل بعض البيارتة واللبنانيين. بقي كثر ما قبل ثورة تشرين يخبروننا عن أطيب كنافة طرابلسية والبوظة العربية الدق، باختزالنا بهذا الحيز الضيق كأننا مدينة الأنتيكا الأخيرة في لبنان التي فيها حرف قديمة وصابون بلدي ومصانع تعمل بالبديهيات وأكل محلي يشبه مآكل باب الحارة الدمشقي. وهو اختزال استخدمه مثقفون لبنانيون في كتاباتهم عن طرابلس باعتبارها مدينة الأصالة، والتي إلى الآن لا أعرف ماذا تعنيه هذه الأصالة. كأن هذه المدينة ليست لبنانية بالأصل بل هي جامدة وأشبه بمتحف جليدي، ومكاناً لا حياة فيه سوى لتذوق الحلو العربي، والذي أيضاً يعد التفاخر الطرابلسي على مدى عصور.
ومن هنا سأنطلق من فكرتك عن التلاقي لا عن التفريق الذي بقي هو الخطاب المعلن حول علاقة المدينتين. لكن من دون أن أنسى أن علاقة جدلية تربط الطرابلسيين ببيروت كمدينة، وهم بمعظهم مياومون وعمال وحرفيين وشغيلة ورش من بلاطين وكهربجية وشباب في شركات الأمن الخاصة وعساكر وجنود، كانوا على تماس مباشر مع علاقة اجتماعية، طبقياً، تشعرهم بالنفور والعداء والغضب من بيروت النامية والمزدهرة. وهو شعور لا دخل لبيروت فيه ولا لسكانها، بل هو نتيجة سياسات الحكومات التي تقصدت كثيراً تهميش طرابلس من أي دور وأي تفعيل لاقتصادها المحلي (قتل مرافقها الرئيسة من مرفأ ومعرض دولي ومنطقة اقتصادية حرة ومطار القليعات ليس بعيد عنها ومصفاة بترول متوقفة). وهناك دور اقتصادي غير مرئي نما على عكس ما يظن كثر وساهم البيارتة أنفسهم في تثبيته. سأتحدث عن هذا لاحقاً. لكن أدعني أفسر أكثر فكرتي عن الباص الذي هو الرابط اليومي بين المدينتين، كأنه سفر بالزمن. بين مدينة متطورة وحديثة وأخرى قابعة في النسيان وما يجده هؤلاء الجالسون على مقاعد مهترئة في رحلاتهم اليومية من فروقات في العمارة والفرص وتسرب الحياة نفسها ومظاهرها، وهي أيضاً مظاهر لم تكن لكل البيارتة ولا الوافدين اليها. وهو ما سيولد حقداً دفنياً ومشاعر اللاعدالة. لكن في الحقيقة توجد بيروتات لا بيروت واحدة، كما يوجد مدينتين طرابلسيتين داخل طرابلس يفصلها البولفار. هذا السفر اليومي جعل الهوة بين المدينتين مفتعلة، قوامها الغضب الطبقي والذي هو جزء من دينامية محركة في الحياة الطرابلسية وجزءاً من خطاب أهلها ونقمتهم. لهذا كان التفاعل الطرابلسي ما بعد ثورة تشرين معبراً بالعمق عن الصراع الطبقي وعن مطالب الشارع اللبناني تجاه الطبقة الأوليغارشية الحاكمة، والتي تتحمل مسؤولية تفجير بيروت الرهيب الذي اعرف أننا كطرابلسيين تحسنناه في قلوبنا وأجسادنا كما تحسسه سكان هذه المدينة والذين مصيرنا من مصيرهم، في نهاية المطاف، ولا دلالة أعمق عن هذا التلاقي الشبابي الذي حدث بعد الثورة.
وعلى الرغم من المسافة الجغرافية كان التلاقي الاقتصادي له وجوه ثقافية بين المدينتين، باعتبار أن طرابلس جذبت الطبقتين الوسطى والفقيرة بيروتياً إليها. كانت أشبه بسوقهم الأسبوعي ومقصداً لرحلاتهم أيام الآحاد. ربما هذا التلاقي لا يعرفه جيداً أولاد جيلي، وهو ما ميز طرابلس كثيراً قبل مرحلة معارك الأسواق منذ بداية العام 2012. أي أن هذه المرحلة التي بقيت منذ إعلان الطائف إلى نهاية العام ٢١٠٢ تخيط علاقات اقتصادية وثقافية بين المدينتين. إذ عدم موات الحرفيات التقليدية، وهو جزء من التراث المادي للمدينة وثقافتها المحلية، بقي شغالاً بسبب البيارتة الذين شكلوا زبائن أساسيين لشراء السجاد المحلي وفرش الصوف والنحاسيات والصابون البلدي والمفروشات وإنتاج الأراكيل المزخرفة على يد حرفيي المدينة القديمة، الذين كانوا يصممون لشركات بيروتية ومطاعم وعمارات ناشئة في بيروت. بيارتة كثر كانوا يعتبرون طرابلس مزارهم في أعطال الآحاد لـ"شم الهوا" والتسوق الأسبوعي لبراداتهم من لحوم وخضار وفواكه. كانوا عصباً اقتصادياً مهماً للمدينة. زبائن أساسيون ساهموا كثيراً في إنعاشها. يشترون لحومهم منها، فهي أرخص وطازجة، كون المدينة مفتوحة مباشرة على أقضية: عكار والكورة وزغرتا والمنية والضنية وعلى المناطق الحدودية الجردية التي كانت المراعي فيها تصدر الذبائح يومياً لكل من سوق نهر البارد ومخيم البداوي وسوق القمح والتبانة وسوق العطارين والرفاعية. عدا عن أن زبائن سوق النجارين الذي يضم كبار حرفيي المدينة، اعتمد إلى وقت قريب على البيارتة لتصميم الصالونات وكنبات غرف الجلوس وغرف النوم، عدا عن سوق الخياطين والأقمشة الذي كان مقصداً للبيارتة لـ"الجهاز" والأعراس. وهذه العلاقة غير المرئية وغير المحكية في السردية بين المدينيتن شكلت صلب التعاملات بين البيارتة والطرابلسيين، الذين راحوا يزدهرون في تطوير مطاعمهم وصالاتها كي تستقبل الوافدين من المناطق.
أعتقد، يكمن خلل النظرة من قبل أبناء جيلي إلى بيروت كونهم لم يتعرفوا عملياً إلى ما قدمه البيارته أفراداً وعائلات لاقتصاد المدينة المتردي، والذي بقي يعيش على رحلات الأحد وينعشها، لكنهم لحظوا بشكل عميق الفرق بين مدينة بيروت المتحركة نسبياً وبين مدينتهم الميتة. فطرابلس لا ليل لها جذاب لأبناء جيلي ولا فرص عمل. ففي الوقت الذي بنت بيروت حداثتها، عزلت طرابلس نفسها وعزلتها الأحداث الكبرى وعزلتها طبقتها السياسية. المرحلة الكرامية جمدت حياتها السياسية وطبعاً المرحلة الحريرية قضت عليها ثم جاءت الميقاتية والصفدية لتحول المدينة إلى "سوق تسول" كبير من خلال فتح جمعيات ومرافق هدفها انتخابي بامتياز. لم يعد هناك ما يلفت النظر إلى أولاد جيلي ومن جاء بعدهم. حياة متخثرة، شبه ميتة. استغل المتدينون والأصوليون هذا التخثر وزادوا في بناء المساجد وزاد الخطاب المذهبي وقتل المرح. في طرابلس عشنا ترومات كثيرة لم تعشها بيروت. ففي الوقت الذي كان الناس يرقصون في جبيل والبترون وفي بارات الجميزة ومارمخايل كان الطرابلسيون ينامون على أصوات الهاون والقذائف. عشت جيداً هذه المرحلة وأعرفها. عدا أننا كنا الحديقة الخلفية لمجريات الحدث السوري. نحن عانينا من شبكات النصرة وجند الشام وداعش وعانينا من تحريك الخاصرة بين الجبل والتبانة. المدينة قُتلت حقيقة. هناك جيل كامل ولد على الرعب اليومي ورصاص القناصة. جيل لم ير نوراً وفكر أن بيروت قد تكون ملجأ للأحلام. بيروت لم تعد هذا المكان. وطرابلس بعيد الحرب لم تقفز قفزة حداثية لتفتح بواباتها وتشرعها لأولادها. وأعتقد أن أكبر رمزية تدل على أن هذه المدينة تقتل أولادها هو ما شهدناه مراراً على جسر البالما (فوق شاليهات المدينة) من حوادث سير قتلت فيها أرواح شبان في أعمارهم المزهرة، يعودون من سهراتهم ويقتلون لأن المدينة لا سهر فيها، إلا في السنوات الأخيرة التي شهدت افتتاح بعض البارات في شارع مينو (شارع يعقوب اللبنان في المينا). كان الشبان يموتون في سياراتهم، لأن المدينة تحاكمهم على سهرهم. المدينة لم تعد متسامحة. بل تعاظم دور الدين ونسب الحجاب جعلها مدينة محافظة ومتشددة بمحافظتها ومتفاخرة بكونها لا تتقارب مع الحداثة الغربية، باعتبارها عروبية وناصرية وقبل كل ذلك لها امتداد سوري، جعلها كل ذلك تتعود أن تنام باكراً. تغلق الأسواق والمحلات والمطاعم وتبقى بعض المقاهي الصغيرة شبه المعتمة وهي لا تجذب الشباب. عدا أن غياب المرأة شبه الكلي ليلاً من مشهدها جعلها مدينة رجالية بامتياز. نرى فقط الرجال في الليل. مقاهي الرجال الصغيرة التي تعج برائحة التنباك العجمي والاصفهاني ورائحة الزمن الغابر. لم تعد المدينة مفتوحة للجيل الجديد الذي راح يلتفت إلى بيروت، بما احتوته من انفتاح سمح للجيل الشاب الطرابلسي القادر بالطبع على الرحيل أو الاستقرار ببيروت، على العيش خارج القيود الطرابلسية التي تظن أحياناً أنها ليست مدينة بل قرية. فالكل قادر على التدخل بخصوصيتك أو انتقاد تصرفاتك بينما بيروت كانت ملاذاً، هناك لديك حيز لأن تكون غير مرئي.
من هنا سأعرج على علاقتي البيروتية وهي علاقة مركبة. عشت حرية ما في بيروت، خصوصاً حياتي كمثلي وفرصاً في التقدم صحافياً. هذا ما كانت طرابلس عاجزة على ان تعطني إياه. لكن طرابلس حين أنظر إليها اليوم من مكاني الجديد أجد أنها فتحت لي، وهذه مجرد تجربتي أنا فقط، ملاذات ومساحات لم تكن بيروت قد قدمتها لي، منها الحياة السفلية والسرية لحياة العابرين والعابرات جندرياً بين ساحة التل وشارع عزالدين، الحياة المثلية المتسربة من صالات السينما والحارات القديمة. وأعتقد أن هذا توفر لي كوني آتياً لا محالة من طبقة اجتماعية عاشت حياتها وعلاقاتها وخبراتها من المدينة القديمة التي كانت خلف الأسوار. الجيل الجديد الذي نشأ في مدينة "حرق البساتين" وعلى أنقاض أشجار الليمون وزهرها، لم تنشأ أي علاقة بينهم وبين هذه المدينة التي تغلق وتصير مظلمة. وهي التي أثارتني شخصياً واندمجت فيها وتعرفت إلى أشباحها.
أعتقد أن كثراً وانت منهم حتى من جيل يسبقني لا يعرف أيضاً هذا المجتمع الذي هو برمته مجتمع سفلي وقاعي، كما قال حسن داوود يوماً، لكنه مجتمع رجالي بامتياز ولا مكان للمرأة فيه للأسف، ولم يخلق أي علاقة مع النساء. فبقي منغلقاً على علاقات سلطة وذكورية. ربما.
ف.ع.
أعتقد أن طرابلس أيضاً لا تختزل إلى اثنين، ففيها إضافة إلى اختلاف ليلها ونهارها، وفقرائها وأثريائها، وعائلاتها القديمة والقادمين الجدد إليها، والتنوع الإثني قديمه وحديثه، وميناؤها وقوامها الداخلي، وضواحيها ومعرضها.. الخ، مثلما أن بيروت أيضاً لم تعد تقبل الاختزال.
لدي انطباع وقد أكون مخطئاً بأن بيروت التي عرفتُها قد انتهت قبل سنين من انفجار المرفأ، فالمدن هي الحكايات عنها والصورة التي تصنع لها بتكلفة هائلة، وقد بدا لي أن أحداً لم يعد مهتماً بصنع سردية أو صورة لهذه المدينة التي طردت باستمرار من فيها. لهذا أحدس بأن السرديات والصور الآتية من المدن الأخرى بات لها مكان في صناعة صورة لبنان، وربما دوره المقبل. لم يعد ممكناً اختزاله في العاصمة، ولا النظر إلى العاصمة بعد دمار مصرفها ودولتها ومرفئها وإهراءاتها واحتلال مطارها وطريقه، إلا من خلال علاقتها بداخلٍ لبناني كانت تتحاشى النظر إليه، وإلا من خلال ربطها بواقع مقيمٍ حولها كانت تتعالى عليه مقنّعةً إياه بأحجبة التخلف والتطرف والذوق المتأخر.
أقصد أن سردية ما، أعقد وأغنى، وصورة أكثر جاذبية وألواناً، قد تتركب بالضبط من التعالق والارتباط بين ما لا يمكن اختزاله من المدن المتشابكة والمتعددة الوجوه. حين أسافر إلى هناك، ورغم التعلق بالعادات المكتسبة، يظل الواقع قادراً على اختراق اعتيادي البصري وعلى إظهار هذا التعدد والتشابك. لكن ربما هي المسافة ما يسمح بذلك، المسافة في المكان، والانفصال في الزمان عن ذلك البلد المتعوس.
وربما كان هذا قدرنا، نحن لبنانيو الخارج، وفينا من كان خارجاً وهو فيه، أن نعيد من جديد صياغة احتمالات للبلد، تحجبها المعاصرة عن عيون المقيمين فيه والمنكوبين به، مثلما يحجبهم القرب عن النظر إلى تنوّعه وتعقيد نسيجه. لكنها صياغة على صورةٍ غير جبرانية هذه المرة، على صورة المدن لا القرى، وعلى لغة بوليفونية لا تسعى إلى فرض تناسق أوحد معياري على تناقضات البلد. وهي أيضاً ليست لغة حنين ونوستالجيا. الحنين غدار بالضبط لأنه يريد إقامة الدهر على لحظةٍ عابرة من الزمن بعد أن نقتّها الذاكرة من شوائبها وآلام جراحها. لكننا لسنا في وارد الحنين، فعدونا ليس الزمن ولا النسيان. وغياب القدرة على نسيان البلد والانشغال بحياتنا الحالية، الأوروبية، منبعه في رأيي ليس الشوق، بل بالضبط المسافة التي لا تسمح بمحو الخوف، بعكس معايشة الخطر مباشرة والتي تنسيك إياه. فبعضنا لا يزال يذكر أن الحرب التي عاشها بجسده كانت أقل تخويفاً له من الوضع اليوم. الخوف من آلات حربية مدمرة تدمر الحيوات والأبنية والمؤسسات واحتمالات المستقبل ومصادره الممكنة. الخوف هذا يمنع من الانفصال عن واقع قبيحٍ، لكنه لا يزال يضم بعض حياة... ربما إلى حين. وكتابتنا هي فقط محاولة لهدهدة الخوف والقول بأن لهذه الحياة ربما دوراً لا يزال ممكناً وحكايات يجب أن تروى وصورة يمكن لحياةٍ قليلة ومركّبة أن تتمرّى فيها فترى أسباباً كثيرة كي تستمر. هكذا، الخوف والبعد يصبحان منتجين، ربما، ويمكن لنا أن نستثمرهما لأجل الحرية والحياة.
ص. أ.
ربما لم يعد لدينا سوى هذه المقاومة، التي تستدعي أفعال الكتابة والاسترجاع والتذكر كونها أدوات ضد توحش الحياة نفسها ووحشة الغربة والمنفى وضد الخوف الذي يترصدنا كوننا وطئنا أوطاناً تعايش مخاوف أخرى لسنا بمعزل عنها بل هي في صلب وجودنا ونسيجنا المستجد، وأيضاً ليست بمعزل عن خوفنا المحمول في أجسادنا القديمة التي جاءت من هناك والمتعايشة مع كل الخضات والانكسارات والانهيارات والخسارات الشخصية والجماعية الناشئة اليوم في بلدنا ككل.
للحقيقة هذا التدوين المستمر عن مدينتنا وتوليفها إن عبر الشعر والرواية والمقالات، ليس سوى أداتنا الوحيدة لمواجهة خوفنا من خسارتها، على الأقل بالنسبة لي. فأنا لم ارجع إلى المدينة بعد، ولم أعاينها منذ فراقي لها، ولم أتمكن من تحسس الظلم المضاعف فيها اليوم. هذا الخوف الداخلي، تبدده الكتابة عنها، كأننا نصوغ ألوانها وروائحها وشوارعها، وجوه أهلها وشجونهم، كي لا تتفرفط الشهادة الحية عنها يوماً.
دوماً أحس أني ملتزم تمام الالتزام، بمسؤولية دفينة، أن أكتب عنها حتى لو صرت بعيداً عنها ملايين السنين الضوئية. كل يوم أتحسسها تمرر مشرطاً في لا لتخرج دماً، بل لتتأكد أني أنزّ رائحة ليمونها الذي كلما شممته في أي مكان في هذا العالم، أتذكر أن المدينة تشدني لأكتب عنها، لتحررني من الذاكرة كحنين ونوستالجيا، لتصبح هذه الكتابة مقاومة للنسيان ومقاومة لتجميد الذاكرة وقبل كل شيء توكيداً على الحياة، على أنها تجري مثل نهر أبو علي، ولو ببطء ومع أوساخ كثيرة.
ف.ع.
ربما كان هذا بالفعل أشد مقاومة ممكنة للمنفى ولكل من تسبب به: الإصرار على أن الحياة لا تتجمد فيه، ولا الزمن يُقفَل، بل تظل تنزّ في اتجاهات مختلفة وتسري، ولو سراً "والليل كاتمه".
صهيب أيوب، روائي وصحافي لبناني مقيم في فرنسا. عمل في صحيفة "الحياة" اللندنية وأسس مشروع "تعا نكتب" الهادف إلى تعميم الكتابة الإبداعية بين أوساط اليافعين في مدينته طرابلس، وينشط في مجال حقوق الإنسان والجندرة، ويهتم بالعلاقة بين الجنسانية والأشكال السياسية والاجتماعية. ينشر حاليا مقالاته بشكل مستقل مع "ميغافون" و"رصيف ٢٢"، وموقع "درج". صدرت له رواية "رجل من ساتان" عن دار هاشيت - نوفل في العام ٢٠١٨، وستصدر له في نهاية هذا العام رواية بعنوان: "بناية هرغول"، الفائزة بمنحة "المورد الثقافي".
فادي العبد الله، (طرابلس، لبنان، ٦٧٩١) كاتب وحقوقي ومحاضر وشاعر وناقد موسيقي. تتنوع مقالاته بين القانون والموسيقى والأفلام و النقد الأدبي والفن المعاصر، وقد نمّى اهتماماً خاصاً بالموسيقى العربية التقليدية وصلتها بالأنظمة الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بها، محرر فخري في مجلة معازف المتخصصة في الموسيقى. أشرف على كتاب "سماع الشرق" (بالفرنسية، ٠٢٠٢) في مناسبة المعرض الذي قدمه متحف MECUM (متحف حضارات اوروبا والمتوسط، في مارسيليا) بالتعاون مع مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية (أمار) وشارك في ندواته. نشر خمسة دواوين شعرية وشارك أيضاً في عدد من معارض الفن المعاصر وورشه في بيروت وحول العالم.
مصدر الصورة: رانيا الرافعي