حوار بين لمى الخطيب وجيسي دارلنغ

ل.خ.
منذ أن قرأنا سويًا مقالة سيلفيا ونتر "The Ceremony Must be Found: After Humanism" (يجب أن نوجد مراسم الاحتفال: ما بعد الإنسانوية) المنشورة عام 4891 وأنا لا أكف عن الرجوع إلى شخصية المهرج. المهرج كمهرطقٍ، حيث الهرطقة هي القوة المدمرة والمعمرة في آنٍ، والقادرة على الإطاحة بمعيارية الأنظمة الفكرية السائدة. فمهرج وينتر هو تجسدٌ، سالفٌ ومقبلٌ، للتغيير المعرفي الثوري. علمًا أن شخصية المهرج لا تستوي في موضعها الديناميكي ذاك إلا في تناظرها مع شخصية الكاهن. بعبارة أخرى، يجسد المهرج التأرجح التضادي ما بين الهرطقة والدوغما الذي ينسج خطوط تاريخ الفكر والإنتاج المعرفي. تقول ونتر التي تقتبس بدورها عن الفيلسوف البولندي ليشيك كولاكوفسكي: "في حين ينبثق كل جديدٍ من الحاجة الدائمة لمساءلة جميع المسلّمات، فإن كل تيارٍ فكريٍ يسعى إلى القطيعة مع "تلك المسلّمات الكائنة، يذهب بدوره إلى إرساء مسلّماتٍ خاصةٍ به"، حتى إذا ما آلت الثورة بالضرورة إلى حالة من الثبات يبقى أن "كل حراكٍ من هذا القبيل يفضي إلى مرحلةٍ لاحقةٍ تخضع فيها مسلّماته للمساءلة والنقد."1

هل هذه الدورة حتمية؟ وأي هرطقة هي المحتومة بالتحول إلى معياريةٍ جديدة؟ وهل ينزع كل المهرجين إلى الهرطقة؟ هل يمهد المهرج طريقًا أم يصنع فجوةً؟ وأين الدعابة من هذا كلّه؟

ثم إنني بدأت أكوّن نوعًا من الهوس البصري التبسيطي المستوحى من ترسيمة ونتر المستفيضة وإن بعيدًا عن مشروعها الكوزمولوجي السياسي بعيد النظر. أقصد أنني بدأت أرى المهرج في كل مكان. بالأحرى، صرت أرى تمثيلًا بصريًا مفرطًا (والتعبير لونتر overrepresented) له – الملابس والألوان إلخ. ثم وجدتُ المهرج في الرسم الذي استخدمتِه لملصق معرضكِ في متحف أوكسفورد للفن الحديث No Medals, No Ribbons (لا أوسمة، لا أوشحة). كيف أنساه بعد الآن؟ هل هو في ذاك العمل الذي يحمل عنوان Big Voice (صوتُ جهور)؟

ج.د.
نعم. Big Voice أو Giant Voice هو التعبير العسكري المستخدم للإشارة إلى نظام البث في حالات الطوارئ على جهازٍ مكبرٍ للصوت في القواعد العسكرية. أكره العسكرة ولكنني أراها في كل مكانٍ، فيها سمةٌ هزليةٌ – من الزي إلى الصفارات والأجراس والأسلحة ولها طابعٍ أدائيٍ مبالغٍ فيه بالمعنى الذي تقدمه جوديث بتلر. أستطيع أن أتحدث عن الرسم ولكن لا يمكنني أن أدعي أن هذه الأفكار كانت حاضرةً بشكل واعٍ في ذهني وأنا أرسم. فالرسم مكانٌ تتراءى فيه جميع الأنماط البدائية للاوعي، لا سيما أنني لست رسامةً بارعةً. وبما أن لا وعيي يشتغل بمخيال نمطي غربي/أوروبي مسيحي/أخروي أبيض الرمزية، فهنالك فجوةٌ حتميةٌ بين ما يخرج إلى اللوحة وبين القرارات التي أتخذها. تلك الفجوة هي المكان الذي أسجل فيه موقفي السياسي وأي نزعةٍ إلغائيةٍ تسعى إلى تعرية الأنماط البدائية اللاواعية كأنماطٍ اعتباطيةٍ واستثنائيةٍ والعبث بها، بدلًا من أخذها على المحمل المعيّن له في الثقافة المهيمنة. بإمكانكِ النظر إلى الشخصية الرئيسية في الرسم على أنها "الذات" التي تنتمي إلى الثقافة المهيمنة والتي تتجلى في هيئاتٍ مختلفةٍ سواء مجازيةٍ أو حرفية. تحمل هذه الشخصية أمام عينيها يدين (بيضاوين) غير يديها. لا تريد هذه الشخصية أن تبصر – أو تتقبل – ما يحدث من حولها، فلا تجد في حوزتها ما يخرجها منه سوى هذه التكنولوجيا الواهية والمثيرة للشفقة. وقد يكون البياض بحد ذاته هو هذه التكنولوجيا التي لا توفر سوى وقايةٍ جزئيةٍ وإن كانت تعبر عن رغبةٍ ملموسةٍ وحقيقيةٍ سواء واعيةٍ أو لا واعيةٍ، فلا تعدو كونها وقايةً سطحيةً وشكلية. وهو يشبه أيضًا النكتة الشهيرة عن البهلوان الذي يقصد طبيبًا ليعالجه من اليأس فينصحه الطبيب بحضور عرض البهلوان الكبير بالياتشي. أعتقد أن ذلك يضع الذات السيدة في الحداثة الكولونيالية الرأسمالية موضع البهلوان الكبير بالياتشي، ما يدعو إلى التندر على الغرور الذي يعتد بمنطق أن "المستبد" هو الآخر دومًا، تفهمينني؟ وهذا هو التهريج إن شئتِ. وقد يكون بورتريهًا شخصيًا أو لا يكون، إنه أنا وليس أنا، مثل جميع رواد المنامات.

ل.خ.
البهلوان والمهرج – هل نتفق على استخدام اللفظتين للتعبير عن المعنى نفسه لتيسير هذا الحوار؟ أعلم أن لهما تواريخ مختلفة ولكنني أعتقد أن الفكرة التي أدور حولها هي نفسها وهي أن المهرج هو شخصية (متمردة) تنشئ احتمالية الفكاهة (المثمرة). يساورني الفضول حول جيسي المهرج.

ج.د.
لقد تدربتُ كمهرجٍ في سيرك لمدة من الزمن. كنا نخضع لتدريبٍ يوميٍ عامٍ، تدريبٍ بدنيٍ محض، حيث نتبادل الأدوار في قفز حبلٍ ضخمٍ يعلو ويهبط بوتيرةٍ إيقاعيةٍ بينما نحن نركض حوله ونحاول اجتيازه. يتوجب على مؤدي السيرك أن يحققوا الانسجام بين أجسادهم وأجساد الآخرين من خلال تكوين إدراكٍ حسيٍ عميقٍ بحركة الجسد ووضعيته وهو أمرٌ لا يمكن تلقينه وإنما يُكتسب بالممارسة فقط. كان المهرج الرئيسي يتحدث بلغة هي مزيج من الفرنسية والفلمنكية والبرتغالية البرازيلية وعامية إنكليزية أميركية مندثرة، ولكنه كان قادرًا على إيصال المعنى من خلال لغة جسده. وكان التدريب بالغ القسوة! في البداية، كان يستدعينا الواحد تلو الآخر إلى "خشبة المسرح" حيث يطلب منا أن نبذل ما في وسعنا لإضحاكه. وكان ضحوكًا ولاذعًا في الوقت عينه، يحتدّ على من لا تسعفه سرعة البديهة أو يُسقط الكرة أو يُطيل مكوثه على المسرح. كنا نبحث عن المهرج في دواخلنا. ولكن طبعًا، لا نفع من البحث عن شيءٍ موجودٍ من الأساس. وما إن يفطن إلى محاولاتنا يزجرنا ويطردنا من على الخشبة. تتذكر نوار الصدر في نصها "Clown School" (مدرسة المهرج) أسلوبًا مشابهًا في تدريبها. "كان باستفزازاته تلك ينزع الغطاء عن الأنماط البدائية التي نخزّنها في دواخلنا، تمامًا مثلما يفعل بعض المحللين النفسيين بهدف فهم الصراعات الداخلية للشخص فيبدأون بتحليل دفاعاته – أي الأدوات التي يستخدمها المرء لإخفاء ما بداخله – قبل الانتقال إلى تحليل ما هو مخفيٌ ولماذا."2 المغزى هو أنني لم أكن مضحكًا قط. بل إن أفضل عرضٍ قدمته للمدرب كان عندما اعتليت المسرح وانفجرت بالبكاء. ضحك وضحك وضحك.

ل.خ.
هل كنت تريد أن تكون مضحكًا؟ أقصد هل كنت تطمحين لأن تكوني مهرجًا "بارعًا"؟

ج.د.
لا أعرف. أردت أن أكون في مأمنٍ على خشبة المسرح أو أن أكون آمنًا في جسدي أو أن أجد أسلوبًا جذابًا أؤدي به نفسي. بصراحة، لا أعتقد أنني وجدت ضالتي قط، رغم أنني حاولت بشتى الطرق. بالعودة إلى الاقتباس من الصدر: "يشترك التحليل النفسي وفن التهريج – وإن بطرق مختلفة جذريًا – في كونهما يشقّان الطريق إلى اللاوعي فيسهلان الولوج إلى الذات اللاجتماعية أو "أن يصبح المرء نفسه" على حد تعبير نيتشه. اعتبر المحلل النفسي د.و. وينيكوت اللعب "مدخل اللاوعي" وقسمه إلى قسمين: اللاوعي المكبوت والذي يجب أن يبقى مستترًا، وبقية اللاوعي الذي "يسعى كل فرد إلى التعرف عليه" من خلال "اللعب" والذي يساهم على غرار الأحلام في تجلي الذات". وفي مدرسة المهرج، يُشار إلى ذلك القسم من العقل الذي يسعى التحليل النفسي إلى استجلائه – من خلال تحليل مواد من الأحلام أو اللعب – المهرج الداخلي.3

ل.خ.
إذًا ثمة مهرجٌ بداخل كل واحد منا؟ وكأن ما تطرحه الصدر يوحي بالحرية المتلازمة مع فن التهريج. يمكننا قراءة ذلك على محملٍ مشابهٍ في مهرج ونتر الذي يهدم الأنظمة المعرفية السائدة بهرطقته. كما يمكن فهم الذات اللاجتماعية بالتوازي مع السؤال الذي تعيد ونتر طرحه حول من وما نحن في مواجهة مفاهيم "الإنسان." ولكن لنعد إلى التفكير في ذلك من خلال بالياتشي. ففي هذا المثال بالتحديد كما في عملك "الصوت الجهور" يبدو أن فعل التهريج لا يبغي زعزعة المنظومة بقدر ما يقنّعه وبالتالي يحافظ على وجوده. فالمهرج ليس إلا واجهةً للكاهن أو المقاتل أو الضابط إلخ.

ج.د.
لعل شخصيتَي المهرج والضابط متشابهتان بشكل أو بآخر، أو كأن أحدهما ظلٌ للآخر، من منظور ثنائيات الحداثة الاستعمارية. بيد أن المهرج كذلك شبيه بالشامان الذي يجسد اللاوعي الجمعي ويتحرك ويمثل سقم هذا اللاوعي سعيًا إلى إحقاق المنفعة العامة. ولكن ماذا عن الأوضاع التي ينطوي فيها اللاوعي الجمعي على نوع من الاستبداد العسكري المجندر على حد تعبير كلاوس تيفيلايت؟ ربما يصبح الكويري عندها مهرجًا. بوتش هارلوكوين حاملًا عصاه السحرية أو كويني كولومبينا – جميعهم ممثلون ذكور بطبيعة الحال (مع التحفظ المعتاد حول استخدام الضمائر المجندرة للإشارة لأي منهم/ن).

ل.خ.
نعم. لكن ماذا لو كان ذلك الذي يتم جرّه (أي تحويله إلى دراغ) هو تحديدًا ما تصفين: شرطي وضيع؟ هل يكفي فعل التهريج بحد ذاته "لإيقاف الشرطي عند حده"؟

ج.د.
أذكر كيف تعامل الجميع مع ترامب على أنه أضحوكة، مهرجٌ لا أكثر. كثرت السخرية من شعره ووجهه وتعابيره. ولم تفطن المؤسسة الليبرالية إلى التهديد الذي كان يمثله. كان الجميع مستغرقين في الضحك بينما كان هو يشق طريقه صعودًا بالتهريج. أثناء بحثي عن شخصية المهرج في الفلكلور الشامي، وقعتُ على مسرحية "المهرج" للمؤلف السوري العظيم محمد الماغوط. تروي المسرحية نسخة من قصة عطيل التي تؤديها "مجموعةٌ من الممثلين المغمورين الذين أوصدت في وجوههم أبواب الحياة - قرعوا باب الفن حتى كسروه."4 وتحمستُ كثيرًا لأن العلاقة بين عطيل والمهرج تتكرر في نص ونتر الذي قرأناه سويًا. دخلتُ إلى حساب تلغرام الخاص بحلقة القراءة لأسأل عن حساب يدخلني إلى منصة JSTOR بحثًا عن ترجمة، فنبّهتني رنا عيسى إلى أن الممثل الذي يؤدي شخصية "غوار" والذي تسميه "شارلي شابلن العربي" قد تحول في نهاية المطاف إلى مؤيدٍ للنظام.

تقول رنا عيسى ما معناه أنه يمكن اعتبار ترامب نموذجًا دوامة المهرج – الكاهن.

ل.خ.
على ذكر ترامب، هنالك مقطعٌ من مقابلة مع لورن برلنت لا ينفك يحضرني في محطات شتى من حوارنا هذا.5 تكتب برلنت في إطار مشروعها حول الكوميديا الخالية من الدعابة:

"إن الأبطال هم شخصيات سيدة تريد أن تبدو الأشياء بهيئة معينة. النصوص هي The King of Comedy (ملك الكوميديا) لسكورسيزي و"الكوميديان" لكولسن وايتهاند و"العودة" و Web Therapy (العلاج على الإنترنت) لليزا كودرو، وجميعها نصوص رائعة. تتمحور الكوميديا التي تقدمها هذه النصوص حول مشهدية العناد الراديكالي الذي يتسبب في الكارثة تلو الأخرى، تمامًا كشخصية الذئب في مسلسل "رود رانر" الكارتوني. تنشأ هذه الكوميديا عن رغبة الأبطال في تحطيم ما يهدد تطلعاتهم من شخصيات أو عوالم. تقنياً تكمن الكوميديا هنا في اتخاذنا كمتفرجين جانب البطل في مسعاه غير الكوميدي لتحقيق طموحه الواهم في تجاوز ذاته والتحول إلى ما يشبه نجمًا شهيرًا. نرى هنا بالطبع الصلة بين الكوميديا الخالية من الدعابة وترامب وغيره من الشخصيات السيدة السارحة في الخيال."

ربما تكون الكوميديا الخالية من الدعابة هي تلك التي يمكنها الحركة بين المهرج وظله.

فشخصية المهرج – رغم تاريخها المكتوب مرارًا – تضعني في مواجهة دوافع الفشل والتلقائية والالتباس والتعارض بين القصد والفعل. ربما كان التهريج محض لحظةٍ، أو إن أردنا استخدام منطق ونتر، هو خلق مساحةٍ أو فجوةٍ يمكننا من خلالها التفكير وإعادة النظر.

ج.د.
أنجزت للتو عرضًا فكرتُ من خلاله كثيرًا بالحنين (المركب والمشروع والجدير بالسخرية) إلى "الزمن الجميل" عندما كان العمل عملًا – والرجال رجالًا، إلخ.- فكرتُ بذلك من وجهة كيفية تلازم الشعائر والحق بالأرض بالأنماط الهوياتية لمفهوم السيادة. صنعت الكثير من المطارق المزدانة بالأجراس والشرائط. كان ذلك استعراضًا لتجسيد فكرة تحويل هذه الأشياء إلى آلاتٍ أو لعبٍ أو أغراضٍ شعائريةٍ وتجريدها من وظيفتها كأدوات. أظن أنني كنت أحاول أن أتلمس حيز التعارض "بين النية والفعل"، على حد قولك، لأصنع شيئًا مبهمًا له ثقل الخشب والمعدن ووظيفة المطرقة إلى جانب خفة الشرائط والأجراس ذات الارتباط بالطقس والإيقاع واللهو. كنت أفكر أيضًا بشخصية السيد بانتش الفولكلورية (المعروفة في أماكن أخرى باسم كاشبرل أو غنيول) و"المصفّق" الذي يضرب به زوجته وطفله ويستخدمه للقتل وإضحاك الناس. لن تخفف الأجراس والشرائط من شدة فتك هذه العصا. كانت محاولةً مني للتحريض أو التنظير الناعم والصلب، بناءً على حديثنا عن المهرج الذي لم يفارق ذهني.

ل.خ.
إن أدوات عمل المهرج هي لعبٌ في الوقت عينه. أعتقد أن في ذلك تضاربًا مثيرًا للاهتمام. إليكِ هذه الصورة الغريبة: المهرج هو نفسه أداةٌ لعمله. تؤطر هذه الصورة العامة بشكل أو بآخر فكرة المهرج كشخصية بلا جسد ولكنها ذات سمات جسمانية مفرطة.

تؤطر هذه الصورة العامة بشكل أو بآخر فكرة المهرج كشخصية بلا جسد ولكنها ذات سمات جسمانية مفرطة.

ج.د.
نعم. عصا المهرج هي القضيب أو السلاح أو العصا السحرية. ليس ضروريًا أن يكون القضيب سلاحًا ولكنه كذلك أحيانًا. وهنالك أوقات يكون فيها القضيب رمزًا نموذجيًا غير محدد الجنس في مواجهة العقم والرصانة المتوقعين والمفروضين من قبل النظام. لعل وجود المهرج هو بغرض التهكم على القانون، وقد أصبحتُ على قناعةٍ بأن هذه الظاهرة تنحدر من تاريخ السحر في الغرب – ولعل المصفّق هو محاكاةٌ ساخرةٌ للمطرقة. أما بالنسبة إلى أدوات المهرج، أوليست أدوات الشغيل، جميع الشغيلة، امتدادًا لذواتهم في إطار نسقٍ محدد؟ وفي الوقت نفسه، لم يكن الشغل بهذا القدر من الإعجاز قط. وهذا ما يجعلني أفكر في بحثك الحالي حول المشتقات المالية. السوق كناظم للاوعي الاجتماعي. في هذا السياق يمكنني أن فهم معنى الشهوة الجنسية من حيث هي تعلقٌ بنموذجٍ لشخصٍ ما يمثل ويشغل حيز التعارض والازدواجية والحَدية، الأمر الذي أجده أقرب إلى نموذج "المحتال". المحتال كمهرجٍ وكساحرٍ وكقوةٍ تخريبية. إليكِ هذا الاقتباس من على صفحة الويكيبيديا عن المحتال: "تعتبر بعض ثقافات السكان الأصليين وجود المهرجين والمحتالين أساسيًا للاتصال بما هو مقدس. ولم يكن في وسع الناس أن يتموا الصلاة ما لم يضحكوا لأن الضحك يشرح الصدر ويحرر الذهن من التحيز الأعمى. وقد حرص البشر على وجود المحتالين في أقدس شعائر التعبد كي لا ينسوا أن المقدس يتجلى في الضيق والانتكاس والمباغتة. وتعتبر معظم ثقافات السكان الأصليين وجود المحتال أساسيًا في عملية الخلق والولادة"6،إلا أن أحد أبرز الاختلافات التي "نراها في المحتال لدى الأميركيين الأصليين هي انفتاحه على تعددية الحياة وتناقضاتها الأمر الذي يفتقده التراث الأخلاقي الأورو-أميركي الحديث."7

ولكنني أتساءل كيف يمكننا إيجاد محتال مخرّب لدى اليسار. أعلم أنهم كثر بين أوساط اليمين.

ل.خ.
قرأت مؤخرًا في كتاب بياتريس ك. أوتو Fools Are Everywhere: The Court Jester Around the World (المهرجون في كل مكان: مهرج البلاط في ثقافات حول العالم) أن المفهوم الكلاسيكي عن "مهرج البلاط" كما نعرفه اليوم (بوصفه شخصيةً مخربةً تمتلك سلطة التأثير على الملك) ما هو سوى أسطورةٍ متأصلةٍ شديدة القدرة على إعادة إنتاج نفسها. تقول أوتو:

"تكثر الروايات عن مهرج البلاط الذي يُعد الشخص الوحيد القادر على نصح الملك المتعجرف، بما يوحي أن مهرجي البلاط قادرون على لجم سلطة ومزاجية الحاكم المطلق. . . . الحقيقة هي أن ظهور مهرجي البلاط الرصينين والمسؤولين مقتصرٌ على نوافذ زمنيةٍ قصيرةٍ جدًا في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر وفي إنكلترا في مطلع القرن السابع عشر على سبيل المثال."8

ج.د.
هل تعلمين أن أوراق التاروت ظهرت في إيطاليا تحديدًا بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وأنها بدأت دورتها مثل الميم (meme) لناحية سعة انتشار هذه الصور وتطورها عن طريق التداول. وكانت ألعاب الورق وسيلةً مهمةً للتبادل الاجتماعي في مجالات التجارة والتسلية على السواء، ويُقال أن أشكالًا مختلفةً من البروباغندا بدأت تنتشر على ظهور البطاقات (إعلانات لخدمات وسلع وإيديولوجيات) التي تحولت مع الوقت إلى وسيلة للعرافة والاطلاع على الغيب – إضافةً إلى إدخالها نظامًا للعب على نسق "المجموعة المملوكية"9 التي انتقلت إلى أوروبا عن طريق مصر مع اختراع الورق. يتألف السر الأعظم في التاروت من مجموعة من الأوراق الرابحة ومعها ورقةٌ "شاذةٌ" لا رقم لها: وهي ورقةٌ ذات قيمةٍ متقلبةٍ أو صفريةٍ، هي نفسها ورقة الجوكر أو المهرج في مجموعة ورق اللعب العادية. ويأتي المهرج في مستهل تسلسل أوراق السر الأعظم في تاروت التبصير ليمثل البطل في بداية رحلته. أفكر أحيانًا في الشفرة الثنائية صفر وواحد وكيف أن الواحد هو المتصل أو الصحيح والصفر هو المنقطع أو غير الصحيح. نورٌ مضاءٌ ونورٌ مطفأٌ. العتمة، الفوضى، الطبيعة، الآخر – كل ما يعجز مشروع التنوير عن احتوائه. وكيف تتمحور بنى العالم ما بعد الديكارتي وما بعد التنويري حول الثنائيات. وفي لعبة الأوراق التي نلعبها الآن والتي نحاول خلالها معرفة ما إذا كان المهرج شرطيًا أو رمزًا أسمىً للتغيير الثوري، يبقى المهرج هو الرابح كونه يتمثل بالصفر (في مقابل [الإنسان] السيد، على حد تعبير ونتر). والأرجح أننا وبعد كل هذا الكلام والتدبيج ما زلنا نراوح مكاننا في رحلة المهرج هذه. الدائرة تكتمل! تبلغ لعبة التبصير هذه خواتيمها ونكون قد خُدعنا جميعنا في النهاية.


[1] Wynter, Sylvia. “The Ceremony Must Be Found: After Humanism.” Boundary 2 (1984): 19–70.
[2] Alsadir, Nuar. “Clown School.” Granta, October 31, 2017.
[3] المصدر نفسه
[4] Myers, Robert and Neda Saab. Modern and Contemporary Political Theatre from the Levant: A Critical Anthology. Netherlands: Brill, 2019: 109.
[5] Markbreiter, Charlie. “Can’t Take a Joke: An interview with Lauren Berlant.” The New Inquiry, March 22, 2019.
[6] Gibbens, Byrd; quoted from letter to the author in Carlin, George. Napalm & Silly Putty. Hachette UK, 2001.
[7] Ballinger, Franchot. "Ambigere: the euro-american Picaro and the native American trickster." Melus 17, no. 1 (1991): 21–38.
[8] Otto, Beatrice K. Fools are everywhere: The court jester around the world. University of Chicago Press, 2001.
[9] المجموعة المملوكية هي تلك التي تتألف من أربعة أطقم: النقود والسيوف والكؤوس والعصي


لمى الخطيب تكتب وترسم وتصنع الأغراض. تخصصت في الهندسة المعمارية وتتابع حاليًا دراستها لتاريخ الفن والفلسفة. تتحرى ممارستها العلاقات المكانية كعلاقات جمالية وسياسية وثقافية متخذة المعمار كأساس ووسيط للفكر الاجتماعي.

جيسي دارلنغ شاعرةٌ وفنانةٌ تستخدم الوسائط المتنوعة "لألغاء تطبيع" الحياة النفسية للحداثة البترو-استعمارية. تقيم وتعمل في برلين.


أُنجز هذا النص بدعمٍ سخيٍ من معهد غوته لبنان.