إعمار الدمار الآتي
مقدمة/ تمهيد
كُتب هذا النص بدايةً للمشاركة في ندوة من تيسير هيثم الورداني، ضمن أشغال داخلية 8 (تشرين أول 2019). ألغيت الندوة وفعاليات أشغال داخلية من دون تردد إثر انطلاق أول تظاهرة يوم 17 تشرين الأول. بعد عدة أشهر، تلقيت دعوة للمشاركة بمنصة "دوام الإرجاء". لم يكن لدي ما أقوله حينها، ولم أنتبه للبديهي، وهو هذا النص. اتفقنا على إعادة قراءته بعد إنهاء بعض إلتزامات العمل. راودني النص بعد الرابع من آب، وقررنا نشره.
إعمار الدمار الآتي
أُذيع الأنِمي عدنان ولينا (أوكونان فتى المستقبل) في أوائل الثمانينيات في العالم العربي، أوعلى حد علمي في الكويت حيث وُلدت. تدور أحداث مسلسل الخيال العلمي التحريكي بعد مرور عشرين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثالثة، والتي اندلعت عام 2008. مغامرات فِتية وسط عمارة غريبة وقاحلة، من حافة العالم وبعد نهايته.
فتاة صغيرة، ربما بدأت بالمشي مؤخراً، تضع يداً على جبينها، وتمسك بالأخرى شيئاً غامضاً - صورة نُشرت على غلاف مجلة العربي في عدد عن مذبحة صبرا وشتيلا عام 1982، نهاية أخرى لعالم من زمننا.
من دون وعي أو تخطيط، أصبحت هذه الطفلة وعدنان ورفاقه صورة واحدة في ذاكرتي.
تجمدت هذه الرؤية لتشكّل مجموعة من الرموز البصرية والجماليات البالية المرتبطة بالرؤية المستقبلية، وبنهاية العالم أيضاً. وكأن لحظة تخيّل المستقبل قد باتت مرتبطة - بالضرورة - بالدمار، إذ صار المستقبل متمثلاً بالدمار الحاصل في اللحظة الحالية، مُشيّدة المزيد من صور الدمار، متسائلةً إن كان هناك من صورة للإعمار في المخيال الجمعي.
أقف وسط ركام نهر البارد1 في صيف 2009، أفكر أن شيئاً ما يختلف هنا. عادة ما أسترجع الأطلال كعنوان في جريدة، أو كمشهد في فيلم يحدث خارج جسدي - كمشهد اختراق آبار النفط المحترقة في رحلة عائلتي من الكويت، عبر العراق، إلى الأردن.
ملاحظة: آبار النفط كانت تحترق في الخلفية بالطبع، لكن الذاكرة تطرز صورها كما ترغب.
نعود لمخيم نهر البارد، شيءٌ ما يختلف في هذا الطلل، ربما هو السياق؛ فعلاقتي به ووجودي فيه هما مرتبطان بإعادة إعماره2. وكأن المستقبل، فعلاً لا مجازاً، كان حاضراً بهذا الدمار.
إذا كانت الممارسة المعمارية نفسها تحمل بُعد الزمن وتحولاته - ليس لأنها عملية تحدث بالمستقبل بالضرورة، أي التخطيط والبناء، بل لأن كل منشأة محكومة بالزوال، وكل منشأ هو طلل عن نفسه، عن فكرته الأولى وعن هيئته الأولى - فكيف إذا كان الزوال كامناً في الكلمة والفراغ نفسه، أي المخيم؟
صفحة بيضاء: من الممكن أن نرى الدمار الشامل الذي حل بالمخيم "تابولا راسا": رغبة أسقطتها الدولة اللبنانية على الواقع مصورةً - أو مهيأةً - للمخيم النموذجي المتمثل بالفضاء المعسكر تماماً.
وقفت مجدداً في المخيم المجروف كلياً، وداهمتني مشاعر مختلطة -حل الدمار مؤكداً، إذاً من الممكن التخيل، أو إعادة التفكير في المستقبل2. لكن أي مستقبل؟
فكرة إعادة إعمار مخيم فلسطيني حملت عدة أبعاد ثورية، من احتمالات فراغية وسياسية.لكن هل من الممكن أن تتحرر عملية الإعمار من العنف الذي أفضى إليها؟ والعنف الذي برر الدمار؟ أم هل ستكون امتداداً وتمثيلاً له؟
تنطلق عادةً مشاريع إعادة الإعمار ما بعد الحرب أو النزاع من مفهوم "التصالح" أو إعادة صياغة هوية وطنية ما، من خلال مراجع زمنية، كاستعادة وتجميد التراث في صورة ما، أو تخيل الهوية المُقبلة. كلاهما يحركه على الأغلب تراكم رأس المال وأنماط الاستهلاك.
لكن هنا، نحن أمام إعمار فضاء "مؤقت"، وجوده مرتبط بوجود الاستعمار والاحتلال، وهو أيضاً استثنائي - أي خارج النطاق "الوطني"- أو Extraterritorial.
إن التمييز والتهميش الواقع على المخيمات الفلسطينية والفلسطينيين في لبنان كان قد بلغ أوجه في الفترة الشهابية، واستمر حتى أواخر الستينيات. تُعد النكسة (عام 1967) نقطة تحول، ليس فقط لخسارة كامل التراب الفلسطيني بالاحتلال الإسرائيلي، وإنما لكونها اللحظة التي بدأ فيها الفلسطينيون تولّي زمام أمورهم، تحديداً في مخيمات الشتات، وخصوصاً بعد معركة الكرامة 3.
في لبنان، أدت المواجهات مع الجيش اللبناني ضد إجراءات القمع العسكري والتهميش- بداية من نهر البارد (أيلول 1969) ومروراً بباقي المخيمات في لبنان- إلى انتفاضة المخيمات (تشرين الأول 1969). تُوجت هذه الانتفاضة باتفاقية القاهرة4 (تشرين ثاني 1969) التي نظّمت العمل الفدائي الفلسطيني في لبنان لتحرير فلسطين، كما نصّت على ضرورة منح الفلسطينيين حقوقاً أساسية فيما يتعلق بالعمل وحرية الحركة، ووضعت 15 مخيماً فلسطينياً تحت الحكم الذاتي5.
تغيرمعنى المخيم كفضاء استثنائي - أو كما تسميه الدولة اللبنانية: الدولة داخل الدولة - مع تبدل الوضع السياسي في المراحل المختلفة: من مذبحة صبرا وشتيلا (1982)، أو حرب المخيمات (1985-1987) وإلغاء اتفاق القاهرة (1987) أو حتى تدمير مخيم البارد بالكامل (2007)، إضافةً إلى التهميش الاجتماعي والاقتصادي اليومي والمقنن، الذي يستخدم خطاب محاربة "التوطين" لخدمة "العودة" لفلسطين6.
لقد دمر الجيش اللبناني نهر البارد بعد ثلاثة أشهر من الاشتباكات مع فتح الإسلام، وتم جرفه بالكامل بعد انتهاء المعارك. حاولت السلطات تبرير هذا الدمار، فمن جهة تم تأطير المعارك ضمن سياق مكافحة الإرهاب، رغم غياب أي تحقيق حول من مَكّن ومَوّل جماعة فتح الإسلام وأدخلها المخيم، ومن جهة أخرى، أُلقي باللوم على أهالي المخيم واستُنكرعليهم حتى حزنهم.
تحول المخيم المجروف إلى موقع عسكري، لا يمكن دخوله من دون إذن من مخابرات الجيش. هذا "الجديد" إذاً أحضر معه تمثيلات وتدخلات جديدة، وكشف تاريخاً يعود للحرب الأهلية، لمعنى الفضاء الاستثنائي، والسيادة اللبنانية.
من المبادئ الرئيسية التي طالب بها أهالي البارد أن يُعاد بناء المخيم في موقعه، وأن يُبنى كما كان. بمعنى آخر، المحافظة على النسيج المكاني والاجتماعي قبل تدميره، إضافةً إلى الشفافية التامة أثناء عملية الإعمار.
تطورت هذه المطالب عبر اجتماعات عدة بين الأهالي والناشطين (لاحقاّ، هيئة العمل الأهلي والدراسات لإعادة إعمار نهر البارد) 7أثناء المعارك (صيف 2007) نتيجة الاقتناع التام بأن الدمار والقصف يخفي خلفه طموح الدولة في بناء المخيم النموذجي.
يمكن اعتبار المطالبة باستعادة النسيج السابق كشيء من النوستالجيا الراديكالية8: شاعرية سياسية تعترف بضرورة العودة إلى نهر البارد من أجل العودة إلى فلسطين، والعودة لماضٍ فردي وجمعي صنع تراكمياً بعد النكبة، وسط أنظمة ترى المخيم كشيء أحادي ومسطح.
هي نوستالجيا - كونها تستحضر الماضي رفضاً لواقع كان له أثر نكبة أخرى على الكثيرين من نهر البارد، وتهجير ما يقارب 30,000 لاجئاً، فوجب فيها استحضار المنزل الثاني، للعودة للمنزل الأول. وراديكالية لأنها ربما تفتقد لرمسنة الماضي والحنين له. بل كانت الغاية منها عودة سياسية فرضت مساراً مختلفاً للإعمار. فلا يمكننا مقارنة استعادة النسيج السابق للبارد باستعادة واجهات وسط بيروت على سبيل المثال - لأسباب عدة، منها اختلاف المعاني والدلالات المعمارية لكليهما، والدافع السياسي والإقتصادي من وراء هذا الاسترجاع.
في كتاب"الحرب والعمارة،"9 يضع ليبيوس وودز نصاً يناقش من خلاله مستقبل إعمار سراييفو، والذي كتبه أثناء حصارها. في أحد المقاطع يقول وودز أن المدن "القديمة" أي السابقة هي heterarchies تختزل الهياكل والطبقات التي شكلتها وتشكلها وتحكمها - والحرب تقوم بتسطيح أو بسط هذه الطبقات والعلاقات المعقدة وتكشفها. ما يمكن استخلاصه من هذا الكلام هو أن الحرب تعرّي القوى المختلفة، فتعود بنا إلى شكل السلطة الهرمي أو hierarchies، الأحادي بشكل واضح ومباشر. لا أتفق بالضرورة مع الشق الأول من هذا الطرح - لكن من الممكن توسيع هذا المفهوم والاستناد إليه.
فاستعادة المكان من الذاكرة منزلاً منزلاً، والأحياء، والطرق، والمعالم الرئيسية، كان فعلاً غير مسبوقاً، حوّل "اللاجئ" من كونه جسماً مجرداً، وفرض هذه الاستعادة كوثيقة أساسية لإعادة الإعمار مغيّراً بذلك المسار، أو الرغبة ببناء مخيم نموذجي10. بالرغم من استناد المخطط الشمولي للإعمار على النسيج السابق للمخيم، تطلب العمل به موافقات ومراسيم رسمية، ومتطلبات فراغية وتخطيطية للجيش والدولة لا يمكن النظر إليها إلا كسيطرة أمنية - أو سيطرة أمنية محتملة مستقبلية، ولتدمير مستقبلي أيضاً11. حُكِم على ما نشيّد من الدمار كما يقول وودز، بأن يكون "جديداً"، سواء تبعنا هيكلاً سابقاً أو بنيناه من الصفر.
من هنا وجب النظر إلى هذه النوستالجيا الراديكالية في سياق نهر البارد، والتي لم تنجح تماماً لأسباب يطول شرحها. فهذه النوستالجيا تحققت بلحظة جمعية وكفعل مقاوم، استرجع من خلالها أهالي المخيم النسيج السابق، وتمكنوا من فرضه هيكلاً للمستقبل الآت. لكن استعادة هذا النسيج لا تعني بالضرورة تحريره من دائرة العنف، إذ لم تنعكس هذه اللحظة الاستعادية تماماً في التخطيط والبناء.
لحظة الوعد بالتحرير المتمثلة بالكفاح المسلح، مثلاً - تحولت لأداة استُهلكت من قبل الأنظمة لتبرر سنوات طويلة من العزل والتهميش، وهي اللحظة نفسها التي بررت تدمير المخيم تماماً. إنها دائرة من العنف الذي يتخذ أشكالاً مختلفة. والمُلفت، هو أن هذه الدائرة يمكن اختراقها، ولو مؤقتاً: فقد مكّن هذا التهميش الكامل للمخيم استعادته من الذاكرة، إذ صارت هذه الذاكرة مقاومة حية للتدمير، ولو لحظية.
ماذا تعني إذاً إعادة الإعمار في هذا السياق؟ ومتى تكون امتداداً لدائرة العنف نفسها ومتى تكسرها؟ وإذا افترضنا أن تخيل المستقبل ينطوي بالضرورة على العيش جزئياً في الحاضر، واستنطاق الماضي، فماذا يعني تخيّل المستقبل بالمؤقتيات الدائمة (كاللجوء، أو النفي مثلاً) والتي هي ترجمة لواقع هذا الدمار الدائم ونتيجةً له، وماذا يعني البناء والسكن؟ ومتى تتغير نقطة الانطلاق هنا، من الحاجة إلى الرغبة؟
1-دمر مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينين الواقع شمال لبنان، صيف 2007 بعد اشتباكات بين فتح الإسلام والجيش اللبناني. فتح الإسلام مجموعة متطرفة غالبيتها من خارج المخيم، تمركزت في شمال لبنان، وفرضت سيطرتها على البارد بعد اختراقه، قبل وقوع الاشتباكات مع الجيش اللبناني.
2-عملت كمهندسة معمارية مع فريق الإعمار
3-معركة دارت في بلدة الكرامة في غور الأردن بتاريخ 21 مارس 1968، بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني من جهة، وجيش الإحتلال الإسرائيلي، انتهت بانسحابه.
5-عدد المخيمات الفلسطينية "الرسمية" الآن 12، بعد تدمير الغارات الاسرائيلية مخيم النبطية بالكامل (1973) وتدمير مخيم تل الزعتر (1976) بعد حصاره من الجيش السوري واليمين اللبناني أثناء الحرب الأهلية - (مجزرة تل الزعتر)، وتدمير مخيم جسر الباشا من قبل اليمين اللبناني أيضاً (1976).
6-رغم ان لبنان كان من الدول المصادقة على معظم بنود بروتوكول الدار البيضاء عام 1965 الذي ينص على ضرورة معاملة الفلسطينيين في الدول العربية التي يقيمون فيها معاملة شعوبهم في إقامتهم وسفرهم وتيسير فرص العمل لهم مع احتفاظهم بالجنسية الفلسطينية فقد بقي اللاجئون الفلسطينيون في لبنان محرومين من أبسط الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية من حيث العمل والملكية، وما يتفرع عنهما من حقوق كثيرة. للمزيد
7-عملت الهيئة بالتعاون مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة ونشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) كشركاء في عملية الإعمار.
8-لا نقصد هنا المفهوم الذي استخدمه الاستير بونيت بالعلاقة مع تاريخ الاشتراكية في بريطانيا
9-الحرب والعمارة، ليبيوس وودز، برينستون للنشر، 1993
10-استند المخطط الشمولي لإعادة الإعمار على منطق المخيم القديم، من نسيج إجتماعي، طرق رئيسية، وغيرها من التفاصيل ، لكن بالتجاوب مع متطلبات فراغية كتوسيع الشوارع الفرعية وزيادة المساحات المفتوحة لتحسين التهوئة والإنارة والظروف المعيشية بشكل عام. بما أن مساحة مسطح المخيم (الأرض) هي من الثوابت الرئيسية في هذه العملية، تطلب تحقيق التحسينات المذكورة إيجاد صيغ حسابية للاقتطاع الأفقي (من مساحة الشقة مثلاً) والتعويض الأفقي (زيادة طوابق مثلاً) اعتماداً على المساحة السابقة المصادق عليها، وعدد أفراد الأسرة وعوامل أخرى.
11-من الأمثلة على ذلك تحديد خطوط عريضة لايمكن تجاوزها أصدرت بمراسيم رسمية، كمنع بناء الأقبية بالرغم من الحاجة الشديدة لها لضيق المساحة، عدم السماح ببناء الشرفات إلا بعد الطابق الثاني، تحديد الإرتفاع الأقصى للجدران الإستنادية ب 3 أمتار، وغيرها من المتطلبات التي تنطلق جوهرياً من منطق تخطيط أمني.
صبا عناب (1980)
مهندسة معمارية وباحثة في الشؤون الحضرية، وفنانة تزاول عملها انطلاقاً من عمّان وبيروت. حائزة على إجازة في الهندسة المعمارية من جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية.
حائزة على منحة باحثة زائرة من "استوديوx عمان" (الدراسات العليا في العمارة والتخطيط في جامعة كولومبيا) عام 2014. وترشحت ضمن اللائحة الطويلة لجائزة دورفمان للعمارة، 2018. شاركت في تأسيس مجموعة أوبا للدراسات والعمارة عام 2019.
تستكشف أعمالها، من خلال صناعة الخرائط، المجسمات والتصميم، الحالات المعلَّقة بين المؤقت والدائم، وتنظر في المفاهيم المتنوّعة للسكن والبناء، ومضامينها السياسية، الفراغية والشعرية في العمارة.
عُرِضت أعمالها في معارض عدة، آخرها أسبوع عمان للتصميم (2019)، النسخة ال 57 لكارنيغي انترناشونال، وأسبوع ميلانو المعماري- ترينالي ميلانو للعمارة (2018)، بينالي أورليون للعمارة - فرنسا (2017)، وبينالي مراكش (2016)، سوء تفاهم في كامبو- روما (2016)، أشغال داخلية 7 (2015)، لئلا يلتقي البحران في متحف الفن الحديث في وارسو (2015)، حوار في دارة الفنون (2013).
معارضها الفردية تتضمن Station Point فيifa–Galerie Berlin (2019)، الرحّالة - مرفأ، بيروت (2016)، أرض بلا خراف - دارة الفنون، عمان (2011) وفي غاليري أجيال، بيروت (2011). اشتركت في برنامج فضاءات أشغال داخلية (2011- 2012).