كذب المنجمون ولو صدقوا

نص – رأفت مجذوب

قراءة – لينه سحاب

رسوم توضيحية – تالا سلمان

ترجمة – طارق ابي سمرا

Your browser doesn’t support HTML audio. Here

منذ فترة وأنا أخرق قاعدتي بعدم ترك هاتفي بجانبي أثناء الكتابة. أضعه على يمين كمبيوتري المحمول وأختلس بضع نظرات سريعة إلى الإشعارات. يُعلمني أحد تطبيقاتي بأنّني أشعر بـ"جهوزية لبداية جديدة، لكن المشاعر ليست وقائع"، ويُعطيني ثلاث نصائح: "القوّة في الروتين. ضغوط في الحب والجنس. مشاكل على الصعيد الروحاني". يقول لي تطبيقٌ آخر: "إذا كنتَ عازباً، فلا تسعى إلى إقامة علاقات جديدة حالياً". وفي تطبيق ثالث، تظهر رسائل مُشفّرة تتعلّق بتنظيم حفلة مفاجئة لعيد ميلادي، تعترضها رسائلٌ أخرى مثل "نحن أغبياء" و"لبنان بلد للاصطياف، لا للمستقبل". واحدة تلو أخرى، تُخبرني الرسائل عمّا سيأتي. أمّا الشاشة التي من المفترض أن أكون في حوار معها، فلا تخبرني بشيء. أُراكِم هذه الأزمنة المُستقبليّة مستحضراً جوّاً أنغمس فيه، فيُسعدُني إرجاؤها من خلال كتابة هذا النص.

هكذا إذاً أبدأ بالطباعة. دوام الإرجاء. وفيما أكتب، أُنشِئُ مُختبَراً صغيراً. في أقصى يمين مجال رؤيتي، أضع باقة زهور نسَّقتُها مع "طقّوش" الكائن في تلّة الخياط. غير أنّ مُختبري ليس في تلك المنطقة. لقد وَضعتُ الباقة قرب النافذة على نحو يستطيع الجيران رؤيتها. أُعقِّم مساحة عملي. أفرُك قلمي بالكحول، وأرشّ أوراقي بالقليل منه. بخطّ أسود عريض، أكتب: "كذب المنجّمون ولو صدقوا" (وهو قول شائع يعتقد الكثيرون خطأً أنّه آية قرآنية)، وأضع قلماً أحمر بجانب الجملة تحضيراً لعملية جراحية مُقبِلة. لقد كنت مهووساً بهذه الجملة على مدى السنوات الأربع الماضية، بَيْد أنني لم أعاينها بدقّة حتّى الآن. الإرجاء. لقد ردّدتها على مسامع أصدقاء وجمعت أقوالهم. أرشّ أقوالاً منقولةً بالقليل من الكحول ثمّ أضعها على الطاولة. مِن الدُّرج بجانبي، أُخرِج دفتراً صغيراً – هديّة – كُتِب على غلافه "روايتي الأولى"، فأضعه بجوار بقيّة أدواتي.

منذ فترة وأنا أرغب في أن أتسلّى بهذه التجربة. ما زلت أشعر أنّني لست مُستعدّاً لذلك بعدُ، لكنّني مُدركٌ لاحتمالات منصّة النشر هذه ولمرونتها. دوام الإرجاء – دعوة إلى زَفْرِ أزمنة الحاضر الفاشلة. فففف. رئتاي مُتشنِّجتان، أعجز عن الزفير. كتفاي مُتخشِّبتان – اليمنى جرّاء رضّة قديمة، اليسرى جرّاء حادث سيّارة. "هي ليست إخفاقات، يا رأفت"، يقول لي صدى التفكير الإيجابي الرائج، الذي تُردِّده شفاهُ عشاقٍ مؤقَّتين. ويتابع الصدى: "نحن نتعلَّم منها".

أسمعُ كلمة "نتعلَّم" بطيئةً بطيئة، "نتعلللللم"، فتزعجني كأنّها بعوضة في منتصف الليل. إنّها إخفاقات، وأجل، يُمكننا التعلّم منها. لا أحتاج إلى حماية من فكرة الفشل، ذاك أنّ مشاكلي مع الواقع ستُحلّ بواسطة روتينٍ مِن الجنس والحب. لكن شكراً. عليّ التأكّد من أنني مُتصالح مع فكرة أنّ هذا النص قد يُشكِّل هو أيضاً إخفاقاً، وأنّه لا بأس بذلك. لقد صرت أدرك أيضاً أنّ كلّ نص أكتبه حالياً يحتاج إلى مقدِّمة طويلة، فقط من أجل تحديد سياقه، ولكي أشرح لكم أنني أكتب مدفوعاً باكتراثي، ساعياً وراء الاستكشافات والشجاعة، وأنني لا أريدكم، أثناء القراءة، أن تُعجبوا بأفكاري أو تمقتوها، وإنما أن ترافقوني في هذه التجربة التي تحصل الآن – خلال كتابتي، خلال قراءتكم.

أسمعُ كلمة "نتعلللللللم" فأشعر أنّ ثمّة مجتمعاً لم يتعلّم بعدُ أنّ الأحكامَ البغيضة والتعيير هي السبب في أننا ما زلنا نحتاج إلى تدريب على زَفْر أزمنة الحاضر الفاشلة – مجتمعاً يُنادي بعدالةٍ شكليّة فحسب، من دون بذل الجهد اللازم لإنشاء منصات تتيح تحقّق هذه العدالة. وبدلاً من ذلك، فإنّه يصرف طاقته على خلق بِنى صغيرة تبثّ الخوف، مساحات افتراضيّة ومادية لشنّ الهجوم وللإدانة، وذلك لإسكات أي شخصٍ يمتلك حقيقةً مُغايرة والتخلّص منه. أكتب هذا النص في حزيران/ يونيو 2020، أي بعد تسعة أشهر من اندلاع انتفاضتنا الشعبية الأحدث في لبنان. وبدلاً مِن أن تُزْهِرَ الأصوات لتصبح ورداً، فقد استحالت – بما في ذلك صوتي أنا – جثثاً يزرعها المدُّ المُتصلِّب للتغيير المُمْتَثِل للأعراف. ومع أنني لم أُهاجَم شخصيّاً، فقد كنت متردداً في الكتابة. كما كنت متردداً في الإقرار بأنني ربّما خائف من الكتابة. أكتب مقدِّمات في رأسي، وأحياناً على هاتفي، ينتهي بها الأمر إمّا كمنشور على "إنستغرام" وإمّا كتوضيح لمنشور على "إنستغرام". أتَّخِذ هيئةَ رجلٍ مُسيطِر، ألتقط سيلفي وأشاركها على "إنستغرام" مدَّعياً أنها بريئة، وأُرفقها بتوضيح مكتوبٍ أعلم أنّ هذا العشيق أو ذاك سيقتبسه لاحقاً في السرير الذي خلفي. "أفكِّر كثيراً بما كتبته". كلُّ شيءٍ بحثٌ. كلّ شيء مثيرٌ للاهتمام.

أتذكّر أنني كنت أجد صعوبات كبيرة في تكوين صداقات عندما كنت صغيراً. في المدرسة، كنت أنظر دوماً إلى غيري من الأطفال على أنهم أولادُ آخرين يلعبون ويتجوَّلون. بالنسبة لي، كان ملعب المدرسة مكاناً وجوديّاً للغاية. كان حيَّزاً حيث تُعلِّق الأُسَر النواتية وهمها بالأمان، مرسلةً إليه ذريتها لكي تتعرَّض لنواة أخرى قدّ تغيّرها من خلال المجاورة والتبادل. هل كنت أريد البقاء نقيّاً؟ لم يغادرني هذا الشعور أبداً. والآن، فيما أعضّ آذانَ غرباءٍ وهم يُطلعونني على ما يعتقدون أنّه الحقيقة، أستطيع الاستمتاع بلحظات التصادم هذه بين خيالاتي وخيالاتهم، وأن أدع خسارتنا للنقاء تُثيرني بدلاً مِن أن تصدَّني.

أفرك هاتفي بمنديل مُبلَّل ثم أضعه بجانب الدفتر على الطاولة. إنّه دفتر بالغ القيمة في نظري. يحتوي على لَغْوي الرصين حول عدم استساغتي لترجمة كلمة "fiction" الإنجليزية بـ"خيال". إنّ كلمتَي "imagination" و"fiction" تترجمان إلى العربية بمُفرَدةٍ واحدة: خيال. ما من مقابل عربي لكلمة "fiction"، وأعتقد أن ذلك يحدّ من إمكانيات تفكيرنا كمجتمع [سياسي] مُبدِع يحاول العثور على سبل جديدة للمضي قدماً. لهذا أنا في مختبري اليوم. فرضيّتي هي أن مُعاينةَ مقولةِ "كذب المنجّمون ولو صدقوا" تستطيع تزويدنا بمصطلحات للكتابة السياسيّة التخييليّة التأمليّة؛ وهي كتابة تهدف إلى تطوير صيغ مُستقبلية، حميمة وعادلة للأزمنة الحاضرة المُمكنة، بالإضافة إلى صيغة تُطرِبُ مجتمعَنا فتحمله على رسم خريطة النجوم بحيث يصبح ممكناً ابتكار مُخططات مُستقبلية جديدة وتنظيمها وتحقيقها.

باللون الأحمر، أكتب "fiction" (خيال) على قطعة من الورق الزهري ثم أضعها تحت "كذب المنجمون ولو صدقوا". لقد وَضعتُ الجملة والكلمة إحداهما على مقربة من الأخرى كي تنتميا إلى الكَوْن ذاته. هذا ما أستمتع به في تجارب مثل هذه: العلاقات الخفيّة الممكنة، بدلاً من العلاقات القائمة؛ إنشاءُ نظمٍ بيئيّة يمكنها احتضان حياة جديدة، بدلاً من نظم بيئيّة مُصمَّمة للحياة كما هي. مختبري هو في الآن عينه مختبرٌ ومتاهة. أتجزّاُ، وأنا أكتبُ، إلى عدّة ذوات مُكلَّفة بالترحال في مسارات مُختلفة تتشعَّب من بعضها البعض. هكذا يصبح التبعثر جزءاً لا يتجزّأ من هذه التجربة. التشتت. الاستطراد والتكهّن. أصنع لحظات الكتابة هذه وأصمّم ترتيبات مُفصَّلة في خيالي. أتخيّل كُتّاباً آخرين يفعلون الأمر ذاته في مختبراتهم، وأشعر بالمحبة تجاههم. أضع باقات زهور في زوايا استراتيجية كي يستطيعوا رؤيتها، أو تنشّق عطرها، أو الالتقاء بها. أتخيَّل أنهم يفعلون الشيء إيّاه. أتخيَّلُنا كسحابة مُتحرِّكة من الحميمية، سحابة مصنوعة من نسيج غير مرئي: نسيج ثقةٍ بأننا موجودون من دون حاجة إلى براهين، بأننا نرى واحدنا الآخر، وبأننا نُشكِّل جماعة حتّى لو لم نلتقِ بعدُ. في هذا النص، أضع نفسي قريباً منكم لكي ننتمي إلى الكَوْن ذاته. هذه الحميميّة المُحتمَلة هي ما أحبّه في تجارب كهذه. نحن هنا وفي مكان آخر. وفيما أنا أتأمَّل، نتأمَّل نحن معاً.

أعتبرُ أنّ فهمَ الخيالِ هو وسيطٌ للتخييل السياسي الذي يلعب دوراً أساسيّاً في عمليّة إنتاج عوالم بديلة. عندما أستخدم كلمة "خيال"، لا أقصد بذلك أشياءً غير حقيقيّة. لعلّ الاختلاف الجوهري، بالنسبة لي، بين الخيال (fiction) والتخيّل (imagination) يكمن في فعل النشر المضمّن في الخيال – النشر كعملية إدخال شيء ما إلى الحيَّز العام، وليس فقط بالمعنى التقليدي (الطباعة) للكلمة. ووفقاً لهذا المنطق، فإن الخيال هو البنية التي تتيح مُشاركة التخيّل. وفعل المشاركة هذا أساسيٌّ في عملية بناء عوالم جديدة أو بديلة.

يتأتّى معظمُ فهمنا للعالم من سلسلة سرديات خياليّة تمّ تفعيلها فوق أجسام طبيعيّة أو سرديات خياليّة سابقة. ثمّة أمثلة كثيرة عن ذلك، لكن المثال المُفضَّل لدي هو الدول القومية. فهو بمثابة وجبةٍ سريعةِ التحضير في ما يخص التكلّم عن الخيال، ولذلك ألجأ إليه غالباً. في حين أنه من المعروف أنّ الدول القومية تُنْشأُ من خلال اختلاق حدود جيوسياسية فوق مساحات جغرافية طبيعية، فإني أستعين بهذا المثال لكي أقول أن الخطوط المرسومة على خريطة، والتي تحوِّل رقعة أرض إلى دولة، هي مثال عن السرديات الخياليّة، وعن الخيال بما هو تخيُّلٌ منشور. إن الشكل الجغرافي لدولة ما، واسمها، وعَلَمها، وهويتها، ونموذج حكمها هي كلّها جزء من عملية النشر تلك. وفي حين أنه يمكن لهذه السردية الخيالية أن تتّخذ بدايةً شكلاً مركزيّاً، فإنّ تأثيراتها على الجغرافيا الطبيعية والبشر متتاليةٌ مُتعدِّدةٌ كتموجات على سطح الماء. ومن ناحية أخرى، يلعب البشر دوراً في إشاعة هذه السردية من خلال تفعليها. يمكن لمدينة أن تصبح عاصمةً فيما مدينة أخرى تتحوِّل إلى ضاحية فقيرة. يمكن لشخص أن يصير عبداً فيما آخرٌ يغدو إلهاً. إنّ ما يُبدِّل وجه الجغرافيا الطبيعيّة الفعلية في هذه الحالة هو التمظهر السردي لسيناريو مُتخيَّل.

ما أريد التلميح إليه هو أن الخيال لا يقتصر على الإمكانات المُتخيَّلة لما يمكن لمساحة طبيعية أن تصبحه، بل يشمل أيضاً تكتيكاتٍ لتجسيدِ ما هو موجود وما يُمكن تخيُّله. نستطيع هنا التفكُّر مرة أخرى في اقتراح اعتبار الخيال أداةً لمشاركة التخيُّل في الحيّز العام. وفي حين تُشكِّل عملية التخيّل جزءاً كبيراً من إنتاج سردية خيالية، فإن المُتخيَّل لا يستطيع التمظهر من دون بنية الخيال. بإمكان السرديات الخيالية أن تحقّق التخيلات الاجتماعية (مثل تنميط الجنسانية والأدوار الجندرية)؛ والتخيلات الاقتصادية (مثل الفشل السائد في تخيّل أي شيء يتجاوز الرأسمالية)؛ والتخيلات البنيوية (مثل الطبيعة الطائفية للنخبة الحاكمة في لبنان)؛ والتخيلات الجغرافية (مثل الحدود الجيوسياسية).

ليست هذه التمظهرات ثابتة كما يرغب مُبتكروها أن تبدو. فالسرديات الخيالية تولد يوميّاً، وتتبدّل، ويُعاد تنصيبها، وتتم مُشاركتها. على سبيل المثال، فإن الانتفاضات العالمية الراهنة، و بغض النظر عن موقف المرء من طبيعتها التغييرية، تشكُّل تيارات في وجه المدّ التدميري للطبقة الحاكمة المستعبِدة. هي ترسيخ لسرديات خيالية في مواجهة سرديات أخرى أكثر ظهوراً. ليس نجاح هذه الانتفاضات مرتبطاً بإسقاط الأنظمة، وإنما بمُراكمة تدريجيّة لتيارات معاكسة تتيح تعزيز سرديات خيالية جديدة.

سوف ننجح إذا أدركنا أننا لا نروي قصصنا لإبراز أنفسنا، بل لبناء عالم مختلف كليّاً سوف نسكنه في نهاية المطاف. سوف ننجح إذا استطعنا ألّا نستبدل السرديات القمعيّة بأنواع مماثلة من الهيمنة. سوف تنجح ثورتنا عندما يُصبح بديهيّاً أن الحقيقة مُتعدِّدة. وأن الحقائق تتعايش جنباً إلى جنب. وأنها حين تدخل في حوار في ما بينها، فإن النظام البيئي المنبثق عن ذلك يكون أمتن وأقوى. لذا، من أجل إقامة هذا الحوار حول الحاجة إلى دراسة الخيال والمضي به قدماً نحو السياسة التخييلية، على المرء التفكِّر به في المقام الأول بما هو حوار حول هذه السلطة الجديدة؛ حول إمكانية المطالبة بالسلطة وتغيير الواقع من خلال رِقّة الحميمية الجماعية – رقة تتغلل في كل شيء – وقوّتها التي لا مثيل لها.

إن تحليلَ الخيال من خلال تجربة الترجمة هذه كفيلٌ بإيضاح إمكانيّة اتّخاذنا إياه نهجَ عملٍ في سياساتنا المقبلة. أقترح في عملي تعريفَ الخيال كدورة من مرحلتَيْن: التفعيل والهمود. الخيال الفعّال هو ما يُعرَّف عموماً بأنّه "حقيقي". إنّه الخيال المُختلَق والمُتَّصِل بهياكل السلطة التي تُجسِّده وتؤمِّن ديمومته. أما الخيال الهامد، فهو الذي يُشار إليه عادةً على أنه "خيال"، وذلك بسبب الإجماع العام على أنّ هذه الكلمة تعني "غير حقيقي". السرديات الخيالية الهامدة هي تلك التي أَخضَعَتْها سردياتٌ مُفعَّلة، أو تلك التي لا تزال حديثة العهد ولم تعثر بعد على طرقٍ لتفعيل ذاتها. عادةً ما تَستهِلّ السرديات الخياليّة مسيرتَها وهي في حالةِ همودٍ، ثم تكتسب الزخم والقوة فيما يضع مبتكروها وشركاؤهم الاستراتيجيات ويُطوِّرون بنى وشبكات لتفعيلها.

وبعيداً عن الشؤون الجيوسياسية، يمكننا إلقاء نظرة على مسألة الحقوق المدنية: تُشكِّل حقوق المرأة في لبنان سرديات خيالية هامدة، وتَعتبِر الطبقةُ الحاكمة أنّ المُطالبةَ بالمساواة في الحقوق المدنية لجميع المواطنين هي هرطقةٌ تؤدّي إلى تدمير المجتمع التقليدي. وبروباغندا الدمار هذه، التي تقوم على زرع الخوف في قلوب الناس، هي واحدة من أقوى الأدوات التي تستعين بها الطبقة الحاكمة للإبقاء على سردياتها الخياليّة الفعّالة، خصوصاً عندما يُفتَرَض أن يُشكِّل الرأي العام مصدرَ السلطات ضمن نظام ديموقراطي.

أنظر إلى هذه الجملة التي أمامي: "كذب المنجمون ولو صدقوا". إنّها جملة لا تُقال إلّا بالفصحى، وقد أضحت مثلاً شعبياً وظيفته نزع صحّةِ أي تنظير أو تَكَهُّنٍ يتعلَّق بالمستقبل ويقع خارج معايير المنطق المُتَّفق عليه. إنها جملة يظن أغلب الناس أنها آية قرآنية أو حديثاً نبويّاً، ما يُفسِّر أنها لا تُقال إلّا بالفصحى. ومع أنّها ليست آية قرآنية ولا مقتطفاً من حديث نبوي، فهي لم تُدحَض كثيراً، وذلك لأنها لا تتعارض مع السردية الخيالية للإسلام السياسي – لا بل هي تُساهم، من خلال انتشارها، في تفعيل هذه السردية بصفتها سردية مؤلِّف واحدٍ أوحد.

وفقاً للإسلام السياسي السائد، وحده الله (خالق أوحد) يستطيع كتابةَ الماضي والحاضر والمستقبل وقراءةَ ما تحويه هذه الأزمنة الثلاثة. تقول الآية: "قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" (سورة النمل: 65)، وهي بذلك تدعو إلى نبذ أصحاب التخمينات والتنظيرات. ويصبح النبذ هذا أكثر تحديداً في أحد الأحاديث، والذي جاء فيه: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر".

ما أراه مثيراً للاهتمام هو أن جملة "كذب المنجمون ولو صدقوا" تُزيد من إظهار وتفعيل السردية الخيالية للإسلام السياسي كمصدر الحقيقة الأوحد لمعتنقيه، وتدخلها في سيناريو يتخطّى الدين حتّى تصبح نوعاً من الممارسة الاجتماعية يستخدمها بخفةٍ أشخاصٌ من غير المسلمين. لهذه الجملة تركيبة بسيطة جداً؛ هي جذّابة، وحاسمة، ومتناقضة، ومطَمْئنة. وهي تقول لنا على نحو قاطع إنّ كل ما يأتي من خارج شبكة احتمالات السرديّة الفعّالة هو خاطئ، ولو تبيَّن لاحقاً أنه صحيح. من خلال هذه الجملة، تُلقي سرديةٌ فعّالةٌ غطاءً من التكهنات والتنظيرات لإخصاء جميع السرديات الخيالية الهامدة من حولها، وذلك بهدف الحفاظ على هيمنتها.

من هذا المختبر، يمكنني الافتراض أنّ جملة "كذب المنجمون ولو صدقوا" تعمل كأداة سيطرة سياسية. كما أن هذه الفرضية تتيح للجملة أن تصبح متاهة بحد ذاتها. ومع أن سياق تشكّل هذه المقولة مُتجذرٌّ في إسلامٍ ثبّت نفسه على نحو واضح كديانة توحيدية في وجه ديانات أخرى، بما في ذلك الوثنية وأشكال أخرى من تعدّد الآلهة، فإننا نستطيع الاستعانة بهذه الجملة لقراءة كيفية تفاعل الطبقة الحاكمة مع السرديات الخيالية المُضادة اليوم.

بالإبتعاد عن خصوصية سياق الإسلام، فإن مقولة "كذب المنجمون ولو صدقوا" تفتح لنا درباً سياسيّاً للمشاركة في دورة السرديات الخيالية المُتبدِّلة. يمكن تحليل هذه الجملة على أنها جهازٌ لهيمنةٍ سياسية تدّعي أنها مصدر الحقيقة الوحيد، فتُجرِّم أصحاب التأويلات المُغايرة لكيفية عمل العالم، وتنبذ من خلال ذلك أي نوع من الحوار أو النقاش. كذبوا ولو صدقوا.

يُضْحي أصحابُ السرديات الخيالية المُضادة المنجمين المعاصرين، وذلك نتيجة رؤيتهم ومشاركتهم لأشياء تتخطى إطار السردية الخيالية المُسيطِرة – وهم هكذا يصبحون تلقائياً كاذبين، ولو صدقوا. في سردية الدولة، تتحول ثورة الجياع إلى مُسبِّب الجوع. عندما ملأ ملايين المواطنين اللبنانيين الشوارعَ في الأيام القليلة الأولى التي تلت 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، في واحدة من أكبر الاحتجاجات العابرة للطوائف والمناطق التي شهدها تاريخ البلاد، فإن النظام لم يُدافع عن نفسه باللجوء فوراً إلى القوة، بل عمد إلى التشديد على بروباغندا تتمحور حول الدمار، زارعاً الخوف من فشل النظام في قلوب الناس بهدف الإبقاء على الوضع القائم.

كذبوا ولو صدقوا. في لحظة التصادم هذه بين سردية خيالية وأخرى، لا يستطيع التخيل القيام وحده بالمهمة. نحن بحاجة، ضمن اللغة العربية، إلى تأويل جذري وعبثي للخيال والكتابة الروائية والحقيقة، وذلك لتمكيننا، بصفتنا منجّمين ومُستمِعين، من إدراك أن فشل النظام يُحرِّرنا ويُتيح لخيالات جديدة أن تُثمِر. فشل النظام ليس النهاية. إن انحسار هذه الثورة الواعدة التي لم يشهد البلد مثيلاً لها لَهُوَ نتيجة فشلنا في مشاركة تخيُّلاتنا بصلابة تكفي لصدّ بروباغندا الدولة – دولة مبنيّة على الحفاظ على الوضع القائم من خلال إثارة غريزة البقاء لدى معظم شعبها.

وبروباغندا الدولة هذه هي ما حمل الناس على الاعتقاد أن المنجمين الذين يحلمون نيابة عن الجميع هم في الواقع بلطجيّة تسبّبوا بانهيار عملة وطنية كانت لولا ذلك ستكون على ما يرام. تنبع قوّة هذه السردية الخيالية التي تبثّها الدولة من نبرتها المألوفة ومتانة نظامها البيئي. حقيقة الدولة هي اللغة الأم التي ينطق بها الجميع. هي تُفعَّل من قبل وسائل الإعلام والقوى الأمنية ورجال الدين والزعماء السياسيين. لا يمكن تجاوزها من دون أن يفشل النظام. والنظام هذا هو من القوة بحيث أن الجائعين في منازلهم لا يصدّقون الجائعين في الشارع وهم يصرخون أن كلا الطرفَين يُعانيان من الجوع. النظام هو من القوة بحيث أن حتّى من هم في الشارع ليسوا متأكدين من إمكانية تعطيله. لتعطيله، نحن بحاجة إلى نوع من العبثية يُتيح لنا إعادة صياغة الحقيقة. ونحن بحاجة أيضاً إلى التفكير في آلية تتيح لهذا الإعلان أن يبتعد عن تلك الحقيقة المفروضة.

باللون الأسود العريض، أكتب كلمة "الحق" على معصمي الأيسر. آخذ وقتي، مرتجلاً خطّاً كوفيّاً بسيطاً. تبدو الكلمة مُثيرة عليّ. أستغرق وقتاً في رسم الخطوط وإعادة رسمها، والتأمل في الحقيقة بما هي حقائق، بما هي طبقات من الشفافية بدلاً من نمط من الحكم أو نقطة مرجعية. أتابع الرسم حتى لا تعود الكلمة تبدو مثيرة. أو مقروءة. أكتب حقيقةً على حقيقةٍ على حقيقةٍ، ولا يمكنني التفكير في ذلك إلّا كمفتاح لفتح لوحة ألوان "كذب المنجمون ولو صدقوا". أشعر بالمزيد من الحماسة.

أزيح جانباً الورقةَ التي كُتِب عليها "fiction" (خيال)، ثم أقلبها رأساً على عقب. أختم بمعصمي طرفَ الورقة الخالي، فيَطبع الحبرُ الرطب – حبرُ الحقائق المُكدّسة – زهرةً خافتة. أنظر إلى باقة الزهور في أقصى يمين مجال رؤيتي، فأبصر انعكاسات ابتسامات جيراني في الماء التي تملأ المزهرية الزجاجية. أشعر بالمزيد من الحماسة. آخذ سكين "إكزاكتو" من مجموعة الأدوات التي على الطاولة وأقطع الورقة الأخرى، فاصلاً الكلمات عن بعضها.

أختم زهرةً أينما أضع معصمي. من الغريب حدوث ذلك، ذاك أنني في الآونة الأخيرة، في كلّ مرةّ كنت أُخضِع أحداً لجلسة علاج بالطاقة، كنت أزرع زهوراً حيث أشعر أن ثمّة ألم في جسده، ثم أراقب الزهور تتفتّح وتأخذ على عاتقها عملية الشفاء. لم أكن أستطيع القيام بذلك إلّا عندما أفكّ ارتباطي بالمنطق وأتوقف عن التفكير. وهكذا، من دون أن أيّ تفكير، استحالت طاولتي المعقَّمة حديقةً. هذه الحديقة تشفيني الآن من أشكالٍ من المنطق كنت قد قلت لنفسي أنني نسيتها، كما تشفيني من أفكار الناس عنّي التي كنت ربّما قد نبذتها، لكنّها لا تزال مع ذلك مُخزَّنة فيّ وأنا أكتب هذا النص. وإذا استطعتم رؤيتها بوضوح، فالحديقة هذه قد تكون أيضاً حديقةً لكم.

بواسطة هذه الأوراق المبعثرة أمامي، أعيد ترتيب الجملة كي أعبِّر عن طرحي بأنّ مُعاينة مقولة "كذب المنجّمون ولو صدقوا" تستطيع تزويدنا بمصطلحات للكتابة السياسيّة التخييليّة التأمليّة. إن اتفقنا على حقيقة أن الأشخاص الثوريين هم منجّمون يتجاوز خطابُهم السرديات الخيالية الفعّالة التي ألّفتها الطبقة الحاكمة مُحكِمةً قبضتها عليها، فسوف يُصبح جليّاً، حينئذٍ، أنّ ما يفعله هؤلاء المنجمون هو ابتكار سردية خيالية مُضادة. فهم لا يتخيّلون فقط عوالمَ تتخطّى العالم القائم والمفروض علينا، وإنما يُشاركون هذه التخيلات عبر بنى عامّة مُستحدثة نستطيع تسميتها بالسرديات الخيالية – تكتيكات لتجسيد المُتخيَّل، يُمكن النطق بها ومُشاركتها والانضمام إليها.

والآن، ماذا لو ترجمنا "fiction writers" (روائيين وقاصّين، أو حرفيّاً كتّاب الخيال) بـ"منجّمين"؟ فمثلهم مثل المنجّمين، يطلب كتّابُ الخيال المعرفةَ من مصادر تجهلها الطبقة الحاكمة وشرطتها. عند النظر إلى السماء ذاتها، تبثّ الشرطة الخوف من العتمة فيما يربط كتّابُ الخيال النجومَ واحدةً بالأخرى. مثلهم مثل المنجمين، يبني كتّابُ الخيال أزمنةً مُستقبلية بمجرد التكلّم عنها. من أهوال الظلمات، ينسجون أبطالاً ومخارجَ ومنازلَ آمنة. ينطقون بالحقيقة ليس لأنها الحقيقة بأل التعريف، بل لأنها حقيقة يمكن أن تحصل. هم يجعلون الحقيقة ممكنة.

بعد ذلك، سنقوم بدمج هذا الاقتراح بجملتنا الرئيسية، بحيث تتحوّل مقولة "كذب المنجمون ولو صدقوا" إلى "كذب كتّاب الخيال ولو صدقوا". ولكي نُحدِّد الخيال هنا، علينا أولاً أن ندرك ما هو الشيء المُحتَجَب. الحقيقة في هذه الجملة هي مفهوم يمتلكه مؤلِّف واحد فحسب. ما يُلمِّح إلى أن هناك حقيقة واحدة فقط. ليس هناك أي التزام لمعرفة ما هي الحقيقة، لكن ثمة انتزاع لإمكانية تأليفها من أيدي كتّاب الخيال.

إنّ طريقة حجب الحقيقة في هذا السياق تكاد تجعل محتواها بلا أهميّة. تُسيطِر هذه الجملة من خلال إخصاء المعنى وإخصاء إمكانيته. تُسيطِر عبر الإدانة وليس عبر التوليد. للاستيلاء على هذه الجملة، نقصفها بالسرديات الخيالية المُضادة. نتأمّل في إنتاج الحقيقية من ضمن دورة من السرديات الخيالية الفعّالة والهامدة، وذلك لتعريف الكذب كفعل من التلفيق: إذا كان كتّاب الخيال يكذبون من حيث الجوهر، أي يتكلّمون على نحو يتخطّى ما هو حقيقي نسبيّاً، يصبح الكذب تالياً، وبصفته فعل تلفيق، هو آلية إنتاج الحقيقة. بهذا المعنى، تغدو ترجمة "fiction" (خيال) إلى العربية هي "الحق" (the truth).

إن هذا التأويل الجديد لـ"كذب المنجمون ولو صدقوا" يُتيح لهذه الجملة أن تصبح مرآة، فتنظر بدورها إلى مؤلِّفها مِن موقع حقيقةٍ جديدة تتقبَّل تعدَّد الحقائق. الحقيقة كتلفيق، وليس كمعيار. أستغلّ لحظة التفكير هذه لكي أتأمّل في فشل النظام – فشل المنطق، واللغة، والتاريخ. ماذا لو أمكننا بواسطة التنجيم بصفته كتابة خيالية، ليس قراءة النجوم فحسب، بل أن نخطّ أيضاً نجوماً جديدة في الماضي والحاضر والمستقبل؛ نجوماً سوف تحرِّرنا من هيمنة الواقع القمعية؟

عندما أكتب سرداً خيالياً، وبما في ذلك هذا النص، لا أهدف أبداً إلى الإحالة إلى شيء غير الحقيقة. ولعلني أدركت خلال كتابتي هذا النص، أن ما يحثّني على البحث عن بديل للترجمة العربية المُتداولة لكلمة "fiction" (خيال) – ومهما كان هذا البديل مؤقّتاً – لربّما هو رغبتي في بناء مختبر حيث ثمّة إناء فيه زهور يوضَع على نحوٍ يُتيح رؤية ابتسامات جيراني في انعكاسات الماء. وسيزورني هؤلاء الجيران يوميّاً، وأحياناً سوف يُنشئ جيران جدد مختبرات بالقرب من مختبري، وسوف نتكلّم عن عملنا. سوف يخطّ كلّ منّا في مختبره نجوماً، وسوف يضع مزهريات على نحو يتيح لكل منا رؤية سرديات الآخرين، ويتيح للسرديات أن تتلاقح.

أقترح كل ذلك على نحوٍ يكون فيه "المنجمون" بصيغة الجمع دوماً. تنمو عوالمنا حين نسمح لسرديات الآخرين أن تظهر في سردياتنا، حين نؤمِن بسرديات الآخرين ونُعيد استخدامها. انعكاسات المزهريات على المزهريات تطبع زهوراً في كل مكان يقع عليه الضوء. ومع الوقت تتفتح الزهور. تستحوذ على المنطق والتفكير. تصبح الأماكنُ المعقَّمة شجيرات زهور تشفينا من عالم السرديّة الخيالية الواحدة لتنقلنا إلى عالم السرديات الخيالية المُتعدِّدة. تنمو هذه الزهور حين نسمح بتلفيق ومشاركة وإعادة صياغة لحظات كثيرة من حقائق مُتعدِّدة؛ فتصبح إذّاك حدائقَ حيث نخطّ أقدارنا كحقائق.


يموضع رأفت مجذوب عمله في التقاطع بين السياسة والحميمية والتنجيم، عبر استخدام الخيال كأداة للقدرة الفردية والجماعية نحو بناء عوالم جديدة. هو المدير المؤسس لـ "الخان: الجمعية العربية لنمذجة الممارسات الثقافية"، ومحاضر في قسم العمارة والتصميم في الجامعة الأميركية في بيروت؛ raafatmajzoub.com