دوام السلبية لقاء مع باسل عباس وروان أبو رحمة

أُجري هذا اللقاء عبر الإنترنت في بروكلين، نيويورك، نهار 5 حزيران 2020. وتم
تحريره بتصرِّف للاختصار والوضوح.

ترجمة محمد عبد الله

أمل عيسى (أ. ع):
يأتي سؤالي الأول لكما متعلقاً بمسألة النفَس، وهي مسألة حاضرة في أذهان الجميع حاليّاً، سواء بسبب واقعة جورج فلويد أو بسبب الجائحة أو لأسباب بيئية، وكلها أحوال صرنا نعيشها بإطراد ككيان واحد مترابط. يجوز القول أننا قد بلغنا مرحلةً ندرك فيها أن النفَس ليس أمراً مُسلّماً به، إذ صار فِعل التنفّس في حد ذاته مهدَّداً بالخطر، وعلى نحوٍ حرفيّ وليس مجازاً. بيد أن التنفّس فِعلٌ لاإرادي. لربما كان بوسعنا التحكّم في النفَس أو كتمه، ولكن لا مناص من التنفّس رُغماً عنّا. بطبيعة الحال، فإن هذا النمط الجديد ليس بالمُستجَد على الجميع، إذ يمسّ جماعات أكثر من غيرها. في مقال نُشر مؤخراً تحت عنوان «حق التنفس للجميع»، يصف أشيل مبيمبي[1] التنفّس بأنه "شأن لا يمكن مُصادرته، ومن ثم فإنه يتملّص من كل أشكال السيادة، كما يعبّر رمزياً وبامتياز عن مبدأ السيادة". لقد أشرتما في أشغالكما الفنيّة إلى "الحاجة إلى دراية غير عادية، وغير مسبوقة، إلى التنفّس حيثما لا ينبغي لك التنفّس"، كما ذكرتما في مواضع أخرى أن تكرار الصور ذاتها من فلسطين - سواء صور العنف أو غير ذلك - قد "كاد أن يقطع عنها النفَس."[2] هكذا فقد جاء في أشغالكما نذيرُ شبح التنفّس - أو صورته، على ثرائها - على نحو ما، وها هي اليوم تنبثق في المخيّلة.

باسل عباس (ب. ع):
يتبادر إلى الذهن، لدى الحديث عن التنفّس حيث لا ينبغي لك التنفّس، أنك موجود حيث لا ينبغي لك. ثمة ازدواجية ما هنا. فالحال من ناحية هو برهانٌ على الخضوع للرقابة، وعلى كون المرء جسداً غير قانوني موجوداً في غير محلّه. وعلى صعيد آخر، فإن تلك العبارة تنطوي في داخلها على نقيضها: ففي التنفّس رفضٌ لفكرة أنك في غير مكانك، حيث لا ينبغي لك الوجود. إذ تنكرها - إلى حدٍ ما - من خلال هذه الكلمات، وتعبّر عن رفضك لها.

روان أبو رحمة (ر. أ. ر):
أعتقد أن هذه الفكرة في أشغالنا، المتعلّقة بالنفَس والتنفّس، تعود إلى فترة بعيدة، وتشير في جوهرها إلى استحالة الحال الفلسطينية، حين يعي المرء منذ نعومة أظافره أن وجودنا نفسه محطّ سؤال، بل وأنه لا ينبغي لنا الوجود أصلاً. إن الأمر لا يتعلّق بخطرٍ يتهدد المرء في فلسطين في كل لحظة. أجل، ثمة خطر. ولكن، ثمة أيضاً هذا الخطاب الثابت، وهو خطاب ملموس مترسّخ في البنية التحتية - من خلال منظومة الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري - شغله الشاغل هو إنكار وجودك بالكامل. وأعتقد أن هذا الإنكار هو ما نسعى أن نشير إليه. فالنفَس هنا لا يحمل معناه الجسماني فحسب، وإنما يحمل أيضاً سؤالاً وجودياً، ولا سيما عند شعوب لا ينبغي لها الوجود، أو شعوب ليس لها وجود… أتذكّر كطفلة وكفلسطينية، أنه قد طُرِح عليّ في أكثر من مناسبة سؤالٌ حول موطني، وكنت أجيب بأنني من فلسطين، فيعاجلني الجواب بأنه لا وجود لفلسطين ولا للفلسطينيين.

يعني، لاشك من وجود أبعاد مادية لتهديد الوجود، إذ لا يخفى على أحد أنه من الممكن أن يصاب المرء بالرصاص أو تبتر أعضائه أو يختنق بفعل الغاز المسيّل للدموع… بيد أن ثمة سؤالاً أكثر بعداً، وهو سؤال الوجود.

ونظراً لثبوت حال التداعي[3] هذا، يراود المرء شعورٌ لا يتزحزح بأنه غير موجود. ومن ثم، فإن فكرة التنفّس حيث لا ينبغي لك التنفّس هي أيضاً قضية استمرار الكينونة، واستمرار استرداد الذات واسترداد المكان واسترداد الخطاب واسترداد قصّتك وشهادتك. لذا، فقد باشرنا تأمّلاً عميقاً حول كيفية الوجود في ظل هذه الحال المستحيلة. وما هي الأدوات التي بمقدورنا تطويعها كي نتجاوز الرضا بمجرد البقاء، وصولاً إلى استحداث إمكانات مغايرة؟ ومن هنا أتت فكرة القناع على قدرٍ من الحيثية بالنسبة لنا، إلى جانب قصيدة أدريان ريتش [4]. في هذه القصيدة، تفقد الشاعرة وعيها تحت الماء، فيوفر لها قناع الغوص حياة وقدرة: وهي تحديداً القدرة على الوجود حيث لا ينبغي لها، والتنفّس حيث لا ينبغي لها.

إنها قضية الاستمرار والتبدّل بغية البقاء، في ظل حال توقعَت لك الموت، سواء على الصعيد الجسدي أو على كافة أصعدة العنف البطيء. لهذا السبب كان كتاب إدوارد سعيد على قدر من الأهمية بالنسبة لنا[5]، إذ لا يأتي على ذكر "التبدّل" وإنما يقول "ما أسهل أن نتغير، وأن يتم تغييرنا". لقد كان السؤال بالنسبة لباسل ولي هو: كيف لنا تأمّل تلك الحال، لا باعتبارها نتيجة سلبية، وإنما باعتبارها وسيلة للخَلق في حد ذاتها، وكذا لكسر أغلال أسْر الاستعمار وحاله وزمانه؟ هكذا يعتنق المرء فكرة الوجود في داخل ما هو معطوب، ومن ثم هجْر فكرة سياسة الرغبة في الإصلاح أو الرغبة في انتزاع اعتراف بكونها واقعاً مُعاشاً. إنه سؤال عن كيفية الوجود في داخل ما هو منقوص، وكيفية الوجود في حيز الإنكار والسلبية والخسارة، ومن ثم الخروج بإمكانات مغايرة للوجود وللتنفس.

ب. ع:
الأمر يتعلّق أيضاً برفض تأدية نوع معيّن من الفلسطينية، ويتّصل بما ذكرتِه بشأن قطع أنفاس الصورة، حين تتكرر الصورة إلى حد ضياع ما لها من مقدرة، فينقطع نفَسها. إن الأمر يتعلّق بتحكّم المرء في زمام اللحظة التي يرغب فيها في الظهور، وتلك التي لا يرغب فيها في الظهور. وهكذا، يسعى المرء لاختراق الخطاب الاستعماري وكذا الخطاب العنصري. إذ يرفض تأدية ما هو مُنتظَر منه. إنك تسعى جاهداً لبث الأنفاس في شيء ما، بالتخلص من القواعد التي تحدّد أطر تقديمه، والتي من المسموح للمرء بموجبها الكلام فيه.

أ. ع:
لقد شهدت الجائحة بين عشيّة وضحاها تسارعاً في وتيرة إطلاق المنصات الإلكترونية والرقمية لكافة الأمور. ربما كان ثمة احتياج عمليّ أو مرحليّ لبعضها، فلا شك في أن هناك الكثير مما قد بات سهلاً متاحاً بفضلها، ولا سيما في حقول الفن والتعليم، على الأقل في اللحظة الراهنة. بيد أن الأمر مخيفٌ بالقدر ذاته. إذ لا يبدو ثمة سبيل للرجوع، ويبدو أن التحوّل قد اكتمل نصابه في بعض القطاعات، على الرغم من التخوفات البادية للعيان، ابتداءً من أشكال اللامساواة والمراقبة الجديدة ووصولاً إلى استغلال الموارد واستنزافها وما إلى ذلك. في هذا الإطار، بمقدور المرء أن يتصوّر سيناريو تسبق فيه الذاتُ الرقمية الجسدَ الملموس، أو تحل محلّه. وفي الوقت نفسه، فإن الجسد لا يقبع في حالة غيبوبة أو سبات، بل بالعكس: إذ أمسى مُستضعفاً أكثر من أي وقت مضى، ليس بسبب الڤيروس وحده، وإنما لأنه حبيس ما يطلق عليه مبيمبي تعبير "رؤيا تقويضية للعالم"، أي رؤيا فيضان الخراب والانحلال . لقد قمتما بوصف رؤيا مماثلة لمخيّلة مروعة ولعنف "يبدو وكأنما قد سدّ حتّى مسام أجسادنا". إن الجسد والبدن والأحشاء موضوعات حاضرة في أشغالكما. بيد أن الواقع الافتراضي حاضر كذلك، وكذا شخصيات الأڤاتار[6]. كما تشيران إلى أماكن الدمارعلى أنّها "نسيج حي".

ر. أ. ر:
لقد تأملنا في أشغالنا ومنذ فترة طويلة هذا النوع من التقاطعات بالذات: أي الحركة ما بين النسيج الجسدي المُعاش والكينونة والمادية من جهة، والفضاء الافتراضي من جهة أخرى، وكذا اختلاط كل منهما بالآخر. إننا حينما نتحدّث عن الفضاء الافتراضي فإننا لا نقصد بالضرورة فضاءً رقمياً أو سيبرياً، بل هو فضاء متّصل مفاهيمياً بفكرتنا حول الزمن الافتراضي، وهو ليس زمنَ المستقبل الجليّ الذي بمقدورنا أن نتصوره، والذي يبدو في أغلب الوقت هراءً، وإنما هو زمن مُمكن مغاير نعتصم به. وقتما أعددنا «ولكن، قناعي منيع»[7] تأمّلنا حينها في تجربة العودة إلى القرى المدمّرة. في هذه القرى، يجد المرء نفسه داخل هذا النوع من الزمن الافتراضي، إذ يسقط على حين غرة عن حال اللحظة الراهنة. يكشف الموقع - وهيبة الموقع - إمكانية وجود زمن غير زمن الاستعمار. زمن ملموس، تشعر به في أحشائك وفي جسدك، وأنت واقف في هذا الموقع. لكنه ليس بزمن المستقبل بطبيعة الحال، إذ ليس بمقدور المرء في هذا الخط الزمني المستقبلي أن يتصوّر نهاية لاستعمار فلسطين. ولكنك تشعر على هذا المستوى الحَشَوِيّ أنه أمر مُمكن، وهو شعور نابع من الموقع المادي.

ب. ع:
إنه الفضاء في ماديته، النباتات التي تنمو فيه وقدرتها على المقاومة - والقوّة الكامنة داخل الفضاء المادّي نفسه - والتي تجعلك تخطو خارج حدود الزمن: فلا أنت في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل.

أ. ع:
إننا إذن بصدد زمن أو نطاق افتراضي تصوغه مُحدّدات ملموسة للغاية، أي لقاء الجسد والمكان.

ب. ع:
لناصر أبو رحمة (شقيق روان) نصٌ غير منشور يتناول هذه المسألة. كما تناولها الكاتب الفلسطيني إسماعيل ناشف أيضاً[8]: وتحديداً ظاهرة قيام الشباب الفلسطيني بتنظيم رحلات لزيارة القرى المتهدّمة. هؤلاء فلسطينيون يعيشون في مدن قريبة من قراهم الأصلية المُهدّمة، وقد بادروا بتنظيم رحلات لزيارة تلك المواقع وإعادة تفعيلها. لسنا هنا بصدد رحلات حنين إلى الماضي كتلك التي اعتدنا عليها، وإنما رحلات للتخييم وعقد الفعاليات وترميم الكنائس والمساجد المهدّمة وإقامة الأعراس وما إلى ذلك. إن مشروعنا إذن لم يكن يهدف للتوثيق لتلك المواقع، وإنما كان محاولة لقصّ هذه التجربة الحَشَوِيّة المتعلّقة بالسقوط خارج إطار الزمن. يعني، لقد ترددنا على هذا الموقع كثيراً قبل أن نباشر التصوير، وقلّما تظهر في مقطع الڤيديو أي قُرى متهدّمة، بل أجساد تتفاعل مع الفضاء. فقد كان ما يعنينا هو الفضاء في حد ذاته، والتواجد في هذا المكان، وليس حكايته…

ر. أ. ر:
هذا أيضاً هو السبب في قيامنا بالكثير من التصوير التجسيدي: إذ نقوم بالتصوير بأنفسنا بكاميرات محمولة. فالأمر متعلّق بالتواجد جسدياً في المكان. وأعتقد أننا نسعى في الكثير من مشاريعنا لالتقاط كيفية انفراج تلك اللحظات على زمن افتراضي. إنها لحظات حقيقية، كوننا نتعامل مع أناس حقيقيين وليس مع سياق روائي. فليس من نصّ معدّ مسبقاً. بل نعمل برفقة أناس آخرين في تناول موضوع المشروع، أناس تحرّكهم الدوافع ذاتها التي تدفعنا لطرح تساؤلاتنا. ومن ثم فإننا كثيراً ما نقوم بتلك الرحلات معاً، أو نقوم بعروض أدائية معاً، كما في حالة مشروعنا الجديد الذي نعمل عليه حالياً. ليس ثمة ما هو معدّ مسبقاً أو خيالي في هذه الصيرورة، كونها معنيّة بالتجربة الجسدية وقدرتها على إعادة تفعيل ما كان خامداً. وما هذا إلا جانب واحد لا أكثر. بالطبع، ثمة جانب آخر أيضاً، وهو فكرة الصور التشخيصية أو الأڤاتار، والتي نتناولها من مناحٍ شتى تشترك جميعها جذرياً في نزعتها الأدائية: أي مفهوم التحول إلى شخص آخر. كيف يسمح الأڤاتار للمرء بالتحوّل من شخص إلى آخر، وبأن يتّخذ له أوضاعاً ومواقفَ مغايرة؟ إنها فكرة الظهور بهيئة مغايرة أو الرجعة في صورة أخرى. بمقدور الأڤاتار أن يتّخذ له أشكالاً من التبدّل والرجعات لا حصر لها: مغايرة لصورة المرء، وفي مكان وزمن مغاير…

ب. ع:
إذ لا ينبغي لنا أن نكون هنا أصلاً، في أغلب الأحيان…

ر. أ. ر:
ولكن المسألة تتعلق أيضاً بالتخفّف من نوع معيّن من الذاتية. لهذا السبب كانت الأقنعة محط اهتمام أخّاذ بالنسبة لنا. لقد تبيّن لنا من خلال البحث أن هذه الأقنعة كانت تُستعمَل في طقوس أدائية، كانت غايتها أساساً التحوّل إلى شخص آخر. فما عدا فكرة الغفلية أو إخفاء الهوية في حد ذاتها، أثارت هذه الأقنعة اهتمامنا على صعيد التحوّل المذكور. لقد كانت تراودنا فكرة الأڤاتار منذ مشروع «متمردون بالمصادفة»[9]، ولا سيما شخصية اللص الذي لا ينفك يغيّر من هيئته، ويتحوّل إلى جمهرة من الشخصيات الأخرى. تنفرج فكرة الأڤاتار نوعاً ما على تعدّدية الوجود. ومن ثم استخدمنا في العمل «على تلك الحدود المفزعة...»[10] ما قد يعتبره الناس حرفياً شخصيات الأڤاتار. وقتها كانت تشغلنا استحالة بلوغ غزة، استحالة التواجد في غزة والانضمام إلى مسيرة العودة الكبرى، وكيف يمكننا أن نجسد كل من كانوا في ذلك الحقل، بحيث نقوم بأداء ما معهم. يعني، بإمكانك أن ترين في هذه الأمثلة كيف كان حتى مفهوم الأڤاتار شأناً ملموسة بالنسبة لنا، يتجاوز بصيغته الافتراضية السيبرية. بل هي صيغة ملوّثة.

ب. ع:
ليس بمقدورها أن تحلّ محلّ ما هو ملموس، ولكنها تحوّلٌ للملموس.

ر. أ. ر:
على كل حال، لقد استندت تلك الأڤاتار إلى شخصيات واقعية، ممن شاركوا في تظاهرات مسيرة العودة الكبرى. بالطبع ثمة أيضاً كل تلك الأمور الغريبة التي يقوم بها التطبيق والتي سمحنا له بالقيام بها، فإن ما يشغلنا أيضاً هو ما يجري للشيء لدى عبوره إلى الفضاء الافتراضي السيبري. كيف يتبدّل بموجب هذا العبور؟ وأيضاً بعد، ماذا يجري له عندما يعود من هذا النطاق الافتراضي؟ والسؤال الأخير غاية في الأهمية. إن الأمر عندنا إذن يتعلّق حقاً بكل تلك التقاطعات. يعني، إن المجال الرقمي زاخرٌ أيضاً بشتى أشكال الحذف والعنف. ولكننا نعتبر تلك الحالات في الوقت نفسه محلّاتٍ تتواجد في داخلها إمكانات أنماط مادية من الكينونة والعيش واسترداد المكان، وإن كانت تخلو من نظيرها الملموس. إن استرداد المكان والكينونة المعيّة لهي فعلاً من القضايا التي تشغل موضعاً جوهرياً حرجاً في مجمل أشغالنا، كونها قضايا مهدّدة دائماً وأبداً في فلسطين، كما لا يخفى عليكِ. وهكذا، فإنني أعتقد أن ثمة خطورة عظيمة في فكرة افتراض أن بمقدور المرء استبدال الكينونة الملموسة والمعيّة وانتشالها وغرسها في منصة سيبرية، إنه افتراض إشكالي. بل ويعود ذلك أصلاً إلى ما لمسناه فيما جرى في مصر، ولا سيما فيما يتعلق بقضية الأرشيف… تشغلنا تلك القضية منذ فترة بعيدة.

ب. ع:
في العام 2013 أجرى معنا طوم هولِرت حواراً نُشر في «جورنال أوف ڤيجوال كَلتشَر» (مجلّة الثقافة البصرية) تناولنا فيه لحظة 2013 التي شهدت انفجار زخم من المادة الأرشيفية الآتية من مصر[11]. يتناول ناصر في مقال آخر له [12] كيف كان يمزح قائلاً أن الثورات العربية لن تصل مشارف فلسطين أبداً، إذ سيتم توقيفها على الحواجز. فعلى الرغم من أننا قد عشناها افتراضياً، وعلى الرغم من انتمائنا تقنياً كفلسطينيين للوطن العربي، فإننا منقطعون عنه، وبيننا وبينه حواجز مادية. في نهاية المطاف، تلك المادة الآتية من مصر كانت في جوهرها قطيعةً مع صورة الدولة. إذ كانت بين أيدينا صورٌ حقيقية تعبّر عن العصيان والاحتجاج، ولكنها كانت أيضاً لحظات تؤدّى لغاية التوثيق والنشر عبر الإنترنت. كان أمامنا أناس يغادرون الميدان، وآخرون ينادون "رجاء نشر كل ما لديكم على الإنترنت قبل أن تغادروا، حتى يرى العالم مصر من دون مبارك."

أ. ع:
يحضرني هنا أنه وإبان الاحتجاجات اللبنانية في 2005، كان ثمة ذلك الشعور بالوعي بالصورة على وجه التحديد، وبالمشاركة في صنع المشهد أو الصورة. بينما عندما خرجت الناس في احتجاجات تشرين الأول 2019، وربما بسبب البؤس الاقتصادي والبيئي الذي كان قد بلغ درجة من التردّي والانحلال، كان ثمة غضب بين صفوف بعض المتظاهرين ضد فكرة صورة التظاهر…

ب. ع:
لقد ذكرتِني بأمر ما. في اليوم التالي لتنحي مبارك، كانت فلسطين تضج بطاقة لا قِبل لأحد بها. خرجنا يومها إلى الطرقات فوجدناها خالية من الدرك، إذ شلّهم الذعر. لم أر في حياتي أمراً من هذا القبيل، وقلت لنفسي: إن التغيير حقاً آت. وبحلول اليوم التالي، أضحى جلياً أنها كانت لحظة عابرة: إذ عاد الدرك. بطبيعة الحال، حين يتطلع المرء وراءه إلى تلك اللحظة فإن الأمر ربما كان على غير ما اعتقدنا حينها. ولكن المهم أننا حين عدنا يومها إلى الساحة الرئيسية والتي كانت تشهد احتشاد المتظاهرين، كان فيها أناس يرتدون صُدريات وما إلى ذلك، يكنسون الطرقات. توجهنا إليهم وسألناهم: ماذا تنظفون، يا شباب؟ إن التظاهرات لم تنطلق بعد. ولكنهم كانوا يعبّرون عن ردة فعلهم تجاه ما شهدوه في ميدان التحرير، من تنظيف الساحة بعد انقضاء التظاهرات. وهكذا، ينفضح كيف أنه ومن دون "الشيء" في حد ذاته، من دون شيء ملموس على الأرض، ليس بين أيدينا ما يُذكر، ولا يبقى لنا سوى التقليد الآلي.

ر. أ. ر:
نشكر الله على اندلاع التظاهرات الأخيرة هنا في الولايات المتحدة، إذ كانت الأمور قد بلغت حداً مخيفاً. أشعر وكأن أمراً ما قد انكسر بفضل هذه التظاهرات. لقد كان يساورنا قلق عن الأثر الذي سوف تخلفه الجائحة على فعل التظاهر في حد ذاته، عن كيفية تكيّف الناس مع عدم قدرتهم على التجمّع والتجمهر، وهو أمر مخيف بحق. فعجز الناس عن التجمع لا يعني سوى إنكار كل إمكانات الفعل السياسي.

أ. ع:
إنهم موجودون اليوم حيث لا ينبغي لهم، على نحو ما.

ر. أ. ر:
إننا نشهد لحظة غاية في الأهمية. إنها المخاوف التي يعبّر عنها مبيمبي في مقاله لا يتعلّق الأمر بالمتاحف وحدها، وإنما المدارس أيضاً والتعليم عن بُعد، والمستشفيات والعلاج عن بُعد. تحضرني هنا تجربة شخصية، حينما أردت زيارة طبيب عن بُعد إبان فترة الإغلاق الشامل، وقد كان حتى الحصول على تشخيص لحالتي أشبه بالكابوس. إن قلق المؤسسات وسعيها للحضورالسيبري يستحضر مجموعة من الأسئلة في غير محلّها، فإن نقل جميع الأمور إلى الفضاء السيبري ما هو إلا نهج الرأسمالية في التعاطي مع الأزمة. على المؤسسات بدلاً من ذلك أن تُمعن التفكير في دعم جماعاتها واحتياجاتهم الحقيقية.

أ. ع:
يتبادر للذهن أننا نكاد لا نسمع أي حوار في أشغال الڤيديو التي تقومان بها. ربما كنت مخطئة، ولكنني أعتقد أننا لا نرى وجه أحد أيضاً. نرى الشخصيات من الوراء أو من الجانب، إذ لا يواجه أي منها المتفرّج قط، باستثناء هذا العرض الأخير الذي يحتوي الأڤاتار…

ر. أ. ر:
أجل، إن عرض الأڤاتار كان في الواقع أول مرة نستعين فيها بالكلام …

ب. ع:
أجل، إننا لم نقم بتصوير وجه أحد قط. إنها تلك الفكرة التي ذكرناها، حول التخفّف من نوع معيّن من الذاتية. ولكننا وفي مشروعنا المُقبل سوف نستعين لأول مرة بوجوه الناس وأصواتهم.

أ. ع:
لقد سبق لكما أن وصفتما أشغالكما بأنها تسبر أغوار "مشهد معاصر، من آياته أزمة أبدية وحاضر ليس له من آخر". وفي موضع آخر، عقدتما صلة ما بين حال الاستقبال[13] من جهة، وحال الهروب والهشاشة من جهة أخرى. كثيراً ما تأتيان على ذكر ابتسار المشروع الاستعماري أو عدم اكتماله - وقد لمست ذلك في الكثير مما قرأته من كتابات تتناول أشغالكما - والعودة الأبدية، باعتبارها تخفّفاً من قيود الزمن الاستعماري. لقد تحدثتما كثيراً عن الزمن، ربما يمكنكما الآن الحديث عن هذا الابتسار.

ر. أ. ر:
أعتقد أنه بالنسبة لنا في فلسطين، فإن ابتسار المشروع الاستعماري ينوء على حضورنا المستمر. إن مشروع الاستعمار الإسرائيلي - بل وأي مشروع استعمار - يتهدّده دوماً وجودُ الشعوب المُستعمَرة. فطالما ظلت تلك الشعوب باقية ومنظورة، فإن المشروع لن يشهد اكتماله. إذ أن ما يحتاجه المشروع بحق، ولا سيما إن كنا بصدد الحديث عن استعمار استيطاني، هو الإبادة الكاملة. ولكن، وحتى في ظل الإبادة الكاملة، لا أعتقد أن بمقدور المشروع الاستعماري أن يكتمل أبداً…

ب. ع:
سوف تظل تؤرّقه ظلال عنفه، ظلال ما هو باقٍ وأصداؤه وأشباحه.

ر. أ. ر:
على سبيل المثال، لقد كان ثمة أكثر من 450 قرية هُجّرت أو دُمّرت في 1948، بيد أن الإسرائيليين لم يهدموا جميع القرى بالكامل، إذ كانوا بحاجة لبعض منها، كانوا بحاجة إليها لاستكمال سردهم التاريخي: فبعضها أنشئ فوق أطلال رومانية وما إلى ذلك. تجمعهم على ذلك بهذه المحلات علاقةٌ غاية في الغرابة. لقد دُكّت بعض القرى دكّاً، وتُرك بعضها الآخر باقياً، حيث دُمجت ضمن تلك المنتزهات العامة. ينظّمون جولات سياحية في تلك القرى، يتحدّثون فيها عن الحرب… بيد أن الأمر يتعلّق بما هو أكثر من ذلك: فإن كان لهم أن يدمّروا تلك القرى أو أن يمحوها من الوجود، لكانوا دمّروا معها قسماً كاملاً من تاريخهم الثقافي الملموس، وهو ما لا قِبل لهم به.

ب. ع:
إنه ذلك الشبح الذي يؤرّقهم: ففي الحفاظ عليها حفاظٌ على سرديتهم، وفي الوقت نفسه، تقف تلك المحلّات آية على ابتسار تلك السردية. لقد دُمّرت، ولكن ينبغي لهم المحافظة عليها، وإلا افتقدت هذه الأرض قسماً مُعتبراً من تاريخها: فأنّى للمرء أن تكون له كل هذه الأرض من دون تاريخ؟ وهنا، نجد أمامنا ذلك الشباب الفلسطيني العائد من أجل ترميم كنائس ومساجد هذه القرى، وكأنهم أشباح لا ترحل.

أ. ع:
ولكن السردية الإسرائيلية تختلف عن نظيرتها الأميركية، على سبيل المثال، والقائمة على ادعاء وصول المستوطنين إلى أرضٍ بكرٍ، لا يسكنها أحد، فأطلقوا عليها تسمية العالم الجديد. بينما في إسرائيل، نحن بصدد سردية العودة…

ب. ع:
بالضبط، فهم المستوطنون وهم السكان الأصليون في آن معاً. إنهم كل شيء.

أ. ع:
ولكن التواريخ تتقاطع في نقطة ما. فإن كان لهم أن يمحوا تاريخ الوجود الفلسطيني بأسره، فسوف تظل ثغراتٌ تقف عائقاً في درب إنشاء تاريخ متصل يضرب بجذوره في آلاف السنين من الماضي.

ر. أ. ر:
وهنا تكمن فكرة ابتسار المشروع الاستعماري، والتي أعتقد أنه من الضروري ألا نغفلها. كثيراً ما نتأمّل في مشروعاتنا ابتسار تلك الأحوال، ومن ثم كيفية اختراقها. لهذا السبب نتحدّث عن "التخفّف" وعن التأمّل من خلال الأمور وبالتوازي مع الأمور، بدلاً من تأمّلها دائماً من منظور الحال الاستعمارية. إن ما يعنينا هو كيفية مناهضة الناس للخضوع لتلك الأمور أو التقيّد بها، ومن هنا تنبع فكرتا "الهروب" و"الهشاشة". يتناول إدوارد سعيد هذه الزاوية باقتضاب، وقد أثارنا أن نجد ذلك في كتاباته بعد أن كنا قد قرأنا فريد موتِن[14]. ولكنه يتناول تلك الفكرة في علاقتها بفلسطين، وكيف أن السبيل الوحيد للتخفّف هو الهروب. وهكذا، فعندما شاهدنا مسيرة العودة الكبرى، كنا بصدد أناس يخرجون إلى الحقل المفتوح عالمين بأنهم قد باتوا أهدافاً متحرّكة. وفي تلك اللحظة التي يتحوّل فيها المرء إلى هاربٍ مُطارَد، وإلى هدفٍ متحرّكٍ، فإنه يغدو أيضاً متخفّفاً من آليات الاستعمار. وإن المرء ليستشعر ذلك بشدّة حينما يكون في فلسطين. يستشعره في اللحظة التي يواجه فيها ما يُهدّد وجوده وما يُعرّضه للخطر. فاللحظة التي ينهض فيها المرء في مجابهة هذا الخطر، ومن ثم يغدو هارباً كلياً، هي نفسها اللحظة التي يباشر فيها انعتاقه.

ب. ع:
بلا ريب، فإن المرء يمضي صوب حتفه وصوب تحرّره في آن معاً. لهذا السبب، وكلما عدت إلى فلسطين، لا يسعني أن أصف لحظة عبور الجسر. على الرغم من أنني أعيش هناك، ففي كل مرة أعود فيها يراودني شعور بأنهم لن يسمحوا لي بالمرور. لذا، وبمجرد دخولي، تمر عليّ تلك الساعة الأولى وكأنني في عالم سحري، وعلى حين غرّة تبدو حتى القمامة بديعة. إذ يشعر المرء برومانسية ما تجاه فلسطين، وفي الحقيقة فإن سبب هذا الشعور هو عبور ذلك الجحيم اللعين على الحدود، وتشكّك المرء في ما إذا كان سوف يُسمح له بالمرور.

ر. أ. ر:
إن الحال الفلسطينية، علاوة على ما سلف، هي حال الهروب. يصف سعيد حال الهروب هذه بأنها شعور بأنك متورّط على نحو أو آخر، ولكنك لست بموجود، بل ومن الممكن أن تختفي. إننا نتأمّل هذه الحال من زاوية علاقتها بفلسطين، ولكننا نتأمّلها أيضاً من زاوية علاقتها بالكثير والكثير من الأمكنة الأخرى، ومن زاوية علاقتها بكينونة النزوح. فالنازح في يومنا هذا هاربٌ، مُطاردٌ قتيلٌ حبيسٌ، يضايقونه على الحدود، إن كُتب له بلوغ وجهته لربما ظل فيها على نحو غير قانوني. في يومنا هذا، إن من يرزح تحت وطأة أي حال من أحوال التداعي، فهو كالهارب. يعني، هذا ما يقصده موتِن في كتاباته، إلى حد ما. وهكذا، فمن البائن أن هذا ما نسعى لتناوله بالتأمّل: كيف للمرء أن يتّخذ موقفاً يصله بمفهوم صيرورة التخفّف، وبلحظة الهروب والانعتاق هذه؟ فالأمر كله لحظي مؤقّت، أليس كذلك؟

ب. ع:
إنه مؤقت، ولكنه أيضاً ما نعتصم به، وهو بغاية القوّة. هنا تكمن إمكانات الافتراضي، في تلك اللحظات اللحظية التي تفضي إلى حال الانعتاق… وهو يأس أيضاً. لكن هذا هو ما بين أيدينا: نتلقّف ما هو سلبي وننشئ مما بين أيدينا في سياق من النقصان، وكأنه وحدة القياس نفسها.


[1]Achille Mbembe, “The Universal Right to Breathe,” April 13, 2020. Translated from the French by Carolyn Shread.

[2] “Ruanne Abou-Rahme and Basel Abbas in conversation with Fawz Kabra”, Ocula, January 18, 2018.

[3] Precarity، التداعي أو التقلقل هي حال من الوجود الذي يفتقر للقدرة على التنبؤ بالأمن الوظيفي أو الرعاية المادية والنفسية - المعرّب

[4] أدريان ريتش، «الغوص نحو الحطام»، دار نورتون، 1973 (تعريب: عادل صالح الزبيدي)

[5]Edward Said, After the Last Sky: Palestinian Lives, Pantheon Books, 1986.

[6]الأڤتار في الإنترنت هي صورة أو مقطع ڤيديو يدل على هوية المستخدم - المعرّب.

[7]باسل عباس وروان أبو رحمة، «ولكن قناعي منيع»، عمل ڤيديو وصوتي من جزئين، 2016-2018، وكتاب صدر عن Printed Matter في 2018.

[8] إسماعيل ناشف، «رُكام: حول الفن والعودة الفعليّة».

[9]باسل عباس وروان أبو رحمة، «متمردون بالمصادفة»، 2012-2015، مشروع متعدد الوسائط، متعدد الأجزاء.

[10]انظر الحاشية رقم 2.

[11] Basel Abbas, Ruanne Abou-Rahme, and Tom Holert, ”The Archival Multitude,” Journal of Visual Culture, December 10, 2013.

[12] Nasser Aburahme and. May Jayyusi, “The Will to Revolt and the Spectre of the Real: Reflections on the Arab Moment,” City Journal, Vol. 15, No. 6, December 2011.

[13] Futurity، أي حال الوجود في المستقبل وكينونته - المعرّب.

[14]Fred Moten and Stefano Harney, The Undercommons: Fugitive Planning & Black Study, Autonomedia, 2013.


يعمل باسل عباس وروان أبو رحمة معاً في مجموعة من الممارسات التي تتضمن الصوت والصورة والعمل التركيبي وعروض الأداء. تتناول ممارستهما الفنية نقطة تقاطع الأداء والمخيلة السياسية والجسد والحيز الافتراضي.

أمل عيسى (م. 1979، لبنان) تنظم البرامج في e-flux، نيويورك منذ العام 2015. عملت قبل ذلك في «أشكال ألوان» في بيروت، حيث أسهمت في إنشاء «برنامج فضاء أشغال داخلية» الدراسي الذي قامت أيضاً بإدارته. ساهمت ضمن طاقم تحرير موقع tamawuj.org للنشر الإلكتروني، الصادر عن بينالي الشارقة الثالث عشر.