في المكان الخطأ
اختل ميزان العالم، وخرجت الأرقام لتحتل هواء الغرف، وتتكاثر فيه. أرقام المصابين وأرقام المتوفين. حِزم المساعدات وتواريخ الإغلاق. وباتت العودة إلى الطبيعة هو طريقة البشر الوحيدة للهرب من الأرقام، والحفاظ على ما تبقى لهم من صواب. فمال البعض إلى الذهاب إلى النهر، في حين فضّل البعض الآخر التمشية في الغابة. أما أنا فاكتفيت من الطبيعة بالسير على طول القناة الموازية للنهر. وفي طريقي إليها أمرّ بهياكل المباني الحديثة التي توقفت أعمال البناء فيها. ثم أسير في أرض ضيقة تتناثر فيها أشجار البيلسان، كانت حتى ثلاثة عقود مضت أرضا جرداء، تفصل بين شقي المدينة آنذاك، ويسمونها شريط الموت. لم يكن لدي وقت آخر للتمشية سوى في نهاية الأسبوع، لأن عملي لم يتوقف. أسير قليلا مع أشجار البيلسان، ألاحظ تزايد الخيم البلاستيكية بين الأشجار، والتي يعيش فيها من فقدوا مساكنهم. ثم أقطع بضعة شوارع حتى أصل إلى القناة. عندها أظل أسير وسط زحام نهاية الأسبوع، حتى أصل إلى موقع هادئ يظلله صف من أشجار الصفصاف، فأجلس تحت واحدة منها.
جذوع الصفصاف تميل على القناة، وأغصانها جدائل تتدلى في مائها. تسبح كائنات دقيقة حول الأغصان المغمورة، وتطفو بعض الهوام على السطح. فيبدو الغصن المتدلي كأنه حبلا شوكيا يربط كائنات الماء بكائنات الهواء. من حين لآخر تظهر خنفساء صغيرة، وتسير على الحافة بين الماء واليابسة دون أن تسقط. وفي أحد الأيام كنت جالسا وحدي في مكاني المفضل، أنظر إلى مياه القناة ولونها يتحول من الأخضر الداكن إلى الرمادي تحت سماء خريفية متقلبة. فمرّ قارب بخاري تصدح الموسيقى منه، وتتعالى أصوات بشر مبالغة في احتفالها. شق القارب المياه وسرت الموجات في اتجاه الضفتين، كل موجة ترتطم بالحاجز الأسمنتي ثم تعود. وشيئا فشيئا أخذت المياه تلتئم بعد عبور القارب، إلى أن عاد سطحها ساكنا، وتلاشى أثر القارب وصخبه. عندها برزت فجأة يد ممدودة الأصابع من مياه القناة. كانت الغيوم قد ملأت السماء، وأصبحت تحجب الشمس، وتضغط على كل المخلوقات. سماء بيضاء ساكنة. نظرت طويلا إلى اليد حتى زالت كل شكوكي. كانت أصابعها ممدودة ومنفرجة كمن يطلب النجدة. بقيتُ في مكاني أتنفس بهدوء، حتى اقتربت اليد من الحافة مع التيار، فانتفضت واقفا ومددت يدي إليها. تجمد كل شيء حولي لوهلة عندما لمستها. لكنها ابتعدت ولم أستطع التقاطها. نظرت حولي، ولمحت بعض الأغصان الجافة، فذهبت سريعا، وأحضرت أطولها. ثم أمسكت بجديلة من جدائل الصفصاف المتدلية، حتى أحفظ توازني، وملت بجسمي محاولا أن ألمس اليد بالعصا لأُقرّبها إلى الحافة، لكن كل محاولتي باءت بالفشل لصعوبة التحكم في اليد البارزة. من موقعي رأيت جذور شجرة الصفصاف كبيرة ومتشابكة، وغارقة في الماء. عالم بأكمله يكمن تحت السطح. ثم رأيت اليد تبتعد عن الحافة وتتجه إلى عرض القناة رويدا رويدا، فملت بجسمي إلى أقصى ما استطيع، محكما قبضتي حول جديلة الصفصاف. كانت عيناي لا تزالان مثبتتان على اليد عندما ضعفت يدي شيئا فشيئا وأفلتت الجديلة، فاختل توازني وسقطتُ في الماء.
ساعد كامل مبتور من مرفقه. حملته وعدت إلى مكاني، ثم وضعته بجواري على العشب. كان الماء يقطر بغزارة من كلانا. وفاحت حولي رائحة ثقيلة، تشبه رائحة البجع عندما يخرج من الماء. شردتُ في الماء الذي أصبح لونه الآن رصاصيا، وفكرت في مدينة لا أعرفها تحترق، وفكرت في رقم تريليون الذي يفوق قدرة عقلي على الاستيعاب. ثم التفتُّ إلى اليد وقلت لها: هل ترغبين أن أدفنك الآن؟ كانت أصابعها نحيلة، يعلوها لون أزرق، وتتدلى نسائر اللحم من موضع بترها. جلدها زلق، لكنه نظيف، وخال من التقرّحات. عظمها ناصع البياض. مرّت برهة قبل أن أسمع صوتها الواهن يقول متموّجا:
فصلوا رأسها قبل أن يلقوا بجثتها في الماء… آلاف العيون يأكلها السمك… ١٩١٩… جبال من السكر… تلال من القهوة… أنهار من خمر الروم… ١٨٥٩… ما زالوا يعملون في الأسفل… ٢٥٠٠٠٠٠… ألقوهم في الماء بأصفادهم… ١٨٧٦… كنّ مبقورات البطون… إبراهيم سليم… عائشة عبد الرزاق… ٢٠٠٣… عمر ديالو… الحسنة بري… ١٢٠٠٠٠… أطنان من النترات… بحار من النفط.
حملتُ الساعد المبتور لأخفف عنه الهذيان، ووضعته في حجري تحت ساعدي الأيمن، فأصبح لدي ساعدين يخرجان من ذراع واحدة.
قالت امرأة “أريد الانفصال”. وقال رجل “علقت أمس بمظاهرة منكري الوباء”. بدأت أرتجف من البرد. ولاحظت أن العابرين ينظرون نحونا. أردت أن ألقي باليد في الماء وأعود إلى بيتي. لكن اليد التي في حجري قالت بصعوبة: أرجوك ساعدني، يجب أن أعود إلى عملي. فقلت لها: وماذا تعملين؟ فقالت: عملي الكتابة، أنا يد ابن المقفع. ثم سألتني: إلى أي مدينة خرجت؟ فقلت لها إننا في مدينة تدعى برلين. ازدادت النظرات المتفحصة حولنا، وبدأت أشعر بالتوتر. فنهضت من مكاني، وأخفيت اليد تحت قميصي، وأحكمت إغلاق معطفي المبتل. انسللت وسط دهشة الواقفين من منظري، مخلفا بقعتي بلل على العشب، إحداهما أكبر من الأخرى. ومن ورائي نبح كلبان. عندما ابتعدتُ قليلا حانت مني التفاتة إلى الخلف، فرأيت قمة شجرة الصفصاف التي كنت أجلس تحتها بوضوح شديد، رغم بياض السماء، وبدت لي أطول مما كنت أظن. وانطبع صورتها تلك في ذاكرتي إلى الأبد.
سقطتُ في الفراش محموما. يبتلعني ظلام دامس، تلمع فيه صور لم أرها من قبل. أرى عمالا يحفرون الأرض. أرى أسماكا تطفو فوق الماء. أرى أغصان صفصاف مجدولة حول أجساد بشر وتعتصرها. أرى أياد وسيقان. أرى آذانا وعظاما وعيونا. أرى دخانا أبيضا ينتشر فوق الماء، يخنق كل من يتنفسه. أرى سفن شحن ضخمة تعبر المحيطات. أرى وجه أمي كما رأيته آخر مرة. أرى كل ذلك ثم أعود إلى الظلام الدامس. لا أدري كم من الوقت لبثت وأنا مريض. أنهض بالكاد لأشرب شيئا ساخنا، ثم أعود إلى هوّة فراشي. وكلما نهضت رأيت اليد بجواري على الأرض تكتب. لا أدري كيف حصلت على كل هذه الأوراق. كانت هناك أوراق كثيرة حولها، وهي تكتب وسطها. تكتب وتكتب وتكتب. آراها من بعيد، وأنا أترنح فوق الفراش مستسلما لدوامة الحمى، وأسقط مرة تلو الأخرى في ظلام القاع.
طرق الخوف رأسي، فنهضتُ مفزوعا في قلب العتمة. تطلعت بسرعة إلى المنبه بجواري، وتأكدت أني قد تأخرت على عملي، فقمت مسرعا وغيرت ملابسي. كانت اليد لا تزال على الأرض تكتب. ألتقطت أشيائي ومفاتيحي، ومن دون أن أقول أي شيء خرجت وأغلقت الباب من ورائي. سرت والمدينة تغطّ في سباتها. رأسي دائخ وجسدي منهك، وألم خفيف يدب في ذراعي الأيمن، حتى وصلت إلى القلعة. كنت أعمل في بناء قلعة بروسية ضخمة في قلب المدينة. مررت الشريحة الإلكترونية بسرعة في قارئ البوابة المعدنية، وولجت إلى موقع العمل، متجها إلى خلاطة الأسمنت. أهملت الدبيب المتزايد في ذراعي، وحييت زميلي الواقف على الخلاطة، يلقمها الرمل والماء والأسمنت. ثم صعدت إلى الطابق الثاني، وسلمت على العمال الواقفين يدخنون. أخبروني أنهم بحاجة إلى إطارات النوافذ، وإلى مواسير التدفئة. فهبطت إلى الفورك ليفت، ورأسي منفوخ، وضغطت على زر التشغيل.
عندما التحقت بالعمل قالوا لنا إننا نعيد بناء قلعة ملكية قديمة دمرتها الحرب. صديقي فاضل الذي ساعدني في الحصول على هذا العمل، أخبرني أن الأرض التي نبني فوقها القلعة الجديدة كانت تقع في بلاد لم يعد لها وجود اسمها ألمانيا الشرقية، وقام فوقها مبنى البرلمان، وبعد الوحدة تمت إزالة هذا المبنى. كان العمل في الموقع شديد التنظيم. إذ تتكون فرق العمل من أربعة أو خمسة عمال، يقودهم رئيس فريق. وعندما يُكلف الفريق بمهمة محددة، يُترك لرؤسائها تدوير العمل في الفريق. فاضل كان واحدا من رؤساء الفرق، اُختير بسبب ألمانيته الجيدة، واستطاعته ترجمة المطلوب إلى العمال العرب الذين يعملون معنا، والذين وصل معظمهم إلى المدينة بعد ثورات السنوات القليلة الماضية، بينما وصل هو إليها قبل نحو خمسة عشر عاما.
كان بإمكاني دائما تمييز صوت فاضل وهو يعمل من بين كل ضجيج الطرقات والمحركات. صوت تقريط صواميل قواطع الواجهة هذا بالتأكيد وراءه فاضل. كان يقرط الصامولة قرطة إضافية، بينما يكتفي زميله بالقرطة اللازمة فحسب. فيصدر عن المعدن تحت يد فاضل أنين قصير، يشق فضاء موقع العمل. صيحة حادة تثبت دقة العمل وتدرأ عن نفسها أي نقد محتمل. أخذت في رفع أطر النوافذ المعدنية الضخمة إلى الأعلى بالفورك ليفت. وفي اللحظة التي كان عليّ أن أوقف الونش، شعرت بنشر حاد في عظام ذراعي. كان ألما لا يحتمل، لكني نجحت في إبقاء الونش تحت سيطرتي. زاد الألم وغطى على دوخة رأسي، كأن هناك أنياب مفترسة تنهش ذراعي، تمزقه وتنزعه عن جسمي. استغربت الألم الشنيع، وحاولت أن أشغل نفسي بمتابعة الحركة غير المعتادة التي تسري في المكان هذا اليوم. فقد حضرت سيارات كثيرة وغادرت. ثم حضرت أخيرا سيارة شحن كبيرة تحمل فوقها ملاكا برونزيا ضخما، ووضعته في الساحة. ثم أوقفتُ الونش عندما حانت استراحة الصباح، وذهبت إلى المكان الذي يلتقي فيه باقي الزملاء، قاطعا الساحة التي وقف فيها الملاك. عندما وصلت أخبرني زملائي وهم يتطلعون إليّ أني أتصبب عرقا. جلست وسطهم في الاستراحة، وظل الألم يزداد، ولم أعد أستطيع السيطرة عليه. من شدته زاغ نظري، ثم لمعت أمامي نجوم بيضاء صغيرة، وصرخت من الألم.
عندما أفقت في المستشفى كنت قد فقدت الإحساس بذراعي تماما. حقنني طبيب بمسكن، وقال لي: لا تقلق، ستذهب الآن لعمل أشعة مقطعية. وجدت نفسي على سرير متحرك، قادوني به إلى غرفة الأشعة، ثم أرجعوني إلى الغرفة التي أفقت فيها. كان مفعول المسكن قد بدأ فتركت نفسي في خدره. اختفى الألم البشع، مخلفا فراغا أكثر فداحة. ثم جاء طبيب عرف نفسه بأنه طبيب الأعصاب. تطلع إلى الأشعة، وسألني أن أروي له ما حدث. ففعلت. صمت ثوان قليلة، ثم قال: هل هناك ما أزعجك في الفترة الماضية؟ فنفيت. فصمت قليلا ثم قال: نحن نعيش جميعا لحظة استثنائية لم نمر بها من قبل، لكن عليك أن ترى النصف المليء من الكوب، وهو أنك لم تفقد عملك مثل كثيرين. عموما، كل شيء على ما يرام كما أرى، أنت بحاجة فقط للراحة. حاولت أن أحرك ذراعي لكنها لم تتحرك، ثم هززت رأسي للطبيب مؤمنا على كلامه. وعندما خرجت من قسم الاستقبال كان فاضل في انتظاري، فأحاطني بذراعه، وتبادل الحديث مع الطبيب للاطمئنان على حالتي. ثم طلب مني أن أذهب معه إلى بيته، حيث يمكن أن يعتني بي هو وزوجته وطفليه، لكني فضلت أن أعود إلى البيت، فأوصلني.
كانت الأوراق تملأ أرضية غرفتي عندما دخلنا، واليد لا تزال تكتب. فصاح فاضل: ما هذا؟ فأجبته بأنها يد ابن المقفع. فزادت دهشته وقال: وماذا تفعل هنا؟ كان يوما طويلا، وشق عليّ أن أشرح له قصة اليد، فقلت له: لقد برزت لي من مياه القناة. أنا متعب الآن، سأشرح لك فيما بعد. بقي فاضل مسمرا في مكانه بعض الوقت، لكنه غادر أخيرا بعد أن تأكد من أني لا أحتاج شيئا. جلستُ ساكنا في الغرفة. تخيلت أني شعرت بوخز في ذراعي فحاولت أن أرفعه مجددا لكنه لم يتحرك. ثم أمسكت بإحدى الأوراق الملقية على الأرض، وأخذت أقرأ:
ساق… سيقان كثيرة… ساق صغيرة بجوار ساق أكبر… الذين فقدوا أسماءهم… المهملون في الماء الهُمل… الذين لن يصلوا أبدا… الذين لن يعودوا أبدا… الذين لن يستيقظوا أبدا… يد تبحث عن أخرى… رئات مُتبلّة بالملح… برزخ ينفتح بين ضفتين… ضمائر تنفلت من أصحابها… حركة بطيئة… كيفما اتفق… الأصابع تتشنج… الحناجر تجف… الهوة تتسع… الحافة تضيق… ملوحة تحت الجلد… ملابس لم تعد تستر… سطح فوق الماء… حبل يتدلى في الماء… يد تمسك بحبل… ضجيج محرك… ساق تتعب… حقيبة ظهر تفلت… وتتهادى نحو العمق…
٢
خمس لصقات. كل لصقة يتصل بها طرف معدني. واحدة على جانب العنق، واحدة على الزند، واحدة تحت عظم اللوح، واحدة على حِنية الفخذ، واحدة على القلب. يضغط الفني على زر في جهازه فيسري التيار الكهربي، ثم يغادر الغرفة الضيقة. أغمض عيني، وأتخيل أني أسمع ذبذبة، ولا أشعر بشيء، ثم تنتهي الجلسة. لم يحدث أي تقدم بعد أسبوعين من العلاج الكهربي، لكن الألم قد توقف، ومعه توقف أي إحساس يربطني بذراعي. خلال هذين الأسبوعين كنت أذرع الطرقات بذراع يتدلى من كتفي، وقد أظلمت الدنيا في وجهي. سأفقد عملي بعد أن فقدت ذراعي. وسيتعين عليّ تسيير حياتي بذراع واحدة. أنّى لي ذلك وأنا في هذا العمر؟ حتى حياتي السابقة التي عملت فيها من الباطن في مواقع البناء، وكنت أهرب دوريا من حملات التفتيش التي تقوم بها الشرطة، حتى هذه الحياة لن أستطيع العودة إليها. كنت أسير طويلا في شوارع المدينة الملعونة، أسأل نفسي ما الذي جاء بي إلى هنا. لا أعرف إلى أين أذهب، ولا إلى من أشكو. تنهمر فوق رأسي ذكريات قديمة لبيت عائلتي في البصرة الذي لم يعد له وجود، فأهرب منها. وأعود محطما إلى غرفتي آخر الليل.
وذات ليلة عدتُ إلى غرفتي فوجدت يد ابن المقفع سهرانة تنتظرني، وقالت إن لديها فكرة! في اليوم التالي اتصلت بفاضل واتفقت معه أن يحضر إلى بيتي بعد ورديته فورا. وما أن وصل حتى عرضت عليه الفكرة وأنا في غاية الحماس. لكن فاضل لم يبدُ مقتنعا. فقالت اليد: لنجرب، لن نخسر شيئا. فنظر إليها فاضل متشككا، وقال: لم أر في حياتي يد تتكلم. قلت له: اسمع يا فاضل، ليس أمامي خيار آخر، هذه هي القشة الأخيرة التي بقيت لي لأتعلق بها. أنت تعرف أني لا أعول نفسي فحسب. وأنت الوحيد الذي يمكن أن يساعدني. تردد فاضل طويلا، ثم أمسك اليد وتفحصها بحذر. بعدها طابقها على ساعدي الميت، ليقارن طولهما، وقلّبهما يمينا ويسارا. وعندما انتهى ظل ساكتا، ثم وضع اليد على الأرض. قلتُ له راجيا: لا أستطيع أن أثبتها وحدي. لكنه لم يلتفت ناحيتي، ثم نهض وقال أنه سيعود بعد قليل.
بعد أقل من ساعة كان في حجرتي من جديد. أحضر معه قطعة قماش سميكة بها عُرَى، وأحزمة ضاغطة، ورباطا مرنا. وضع ذراعي في حجره، ولف حوله قطعة القماش، ثم ثبّت يد ابن المقفع أسفل ساعدي. لم أشعر بأي شيء، لكني رأيت أن ظهر اليد يلامس راحة يدي. قص الأحزمة الضاغطة لتكون رفيعة، وربط بها أصابع اليد إلى أصابعي. ثم أدخل الأحزمة في عُرى القماش، وشد عليه بالرباط، وثبته حول كتفي. كانت اليد أنحف كثيرا من يدي، والساعد أضعف من ساعدي. من ينظر من أعلى لا يكاد ينتبه لوجودها. وعندما انتهى أنزل ذراعي من حجره، فتدلى ساكنا جواري. تجمدنا في مكاننا لوهلة، حتى تحركت أصابع يد ابن المقفع ببطء ومعها أصابعي، ثم اتجهت إلى الأعلى لتصل إلى مستوى نظري، ومعها ذراعي للمرة الأولى منذ أن سقطت مغشيا علي في موقع العمل. غمرتني السعادة والامتنان لليد. وأخذ فاضل نفسا عميقا، ثم ابتسم وقال: ربما حالفنا الحظ. سنشتري لك ملابس عمل واسعة، وقفازات واسعة، حتى لا يظهر تضخم يدك. وسأضبط لك غدا فتحة القماش وطول الرباط، وإذا سار كل شيء على ما يرام، ستعود إلى عملك بعد غد.
وعدتُ. الملاك البرونزي الذي تركته قبل مرضي أصبح ثمانية ملائكة ضخمة. منتصبة في أرضية موقع العمل، بجوار خزان المياه الكبير. نسخ طبق الأصل من ملائكة أخرى كانت تقف فوق القلعة القديمة. كانت أيادي الملائكة في أوضاع مختلفة. أحدهم ضغط كفيه أمام صدره، وآخر بسط ذراعيه أمامه، وثالث ضم ذراعه اليمنى على صدره، ورفع اليسرى. فبدت الملائكة كممثلين في مسرحية أبدية. لكن ما جمع بينها هو أجنحتها. فقد برزت من ظهورها جميعا مروحة متشابهة من الريش المعدني المصقول، أطرافها لامعة كأنها نصال حادة. وقفتُ أمام الملاك الذي ضغط كفيه، والذي كنت رأيته قبل سقوطي. كان ضعف حجمي على الأقل. وجهه صامت، ونظرته متحجرة. كأنه سقط في المكان الخطأ. هذه هي إذاً الملائكة التي ستحمل القبة المعدنية، وفوقها ستوضع التفاحة الامبراطورية والصليب الذهبي. القبة التي ستكون رأس القلعة وعلامتها التي لن تخطئها عين تنظر من بعيد إلى أفق المدينة. ثم سمعت فاضل ينادي عليّ، فذهبت إلى الفورك ليفت لأستأنف عملي.
عودتي لم تكن سهلة، فقد كانت حركات يدي على المقابض لا تزال خرقاء، وبحاجة إلى دعم من يدي الأخرى. لذلك حرص فاضل على أن يضمني لفريقه كل يوم، ويخصص لي مهمات بسيطة. ولا يجعلني أغيب عن عينه. قيادة الفورك ليفت تحتاج إلى حساسية عالية لحركة الونش، ضغطة بسيطة خاطئة قد يؤدي إلى كارثة. كانت يدي تعرف طريقها وحدها سابقا، أما الآن فأصبحت حركات يدي تصدر عن عصب ما في بطني، أشعر به يشدّ جسمي، فتلتقط يد ابن المقفع الإشارة وتحاول تنفيذها. كان العمل مرهقا للغاية، لكني نجحت ألّا ألفت الانتباه إلى مظهري، مما يعني أن الأمل في احتفاظي بعملي كبير. ومرّ اليوم الأول بسلام رغم بطئه، إلا أنني عندما كنت أستعد لمغادرة الموقع لفت انتباهي فتاتين بلباس العمل الأزرق، شعرهما يبدو مُندّى، ولم أكن رأيتهما من قبل. بدا أنهما تراقبان بدقة سير العمل، بينما تسيران وسط الموقع. تطلعتا إليّ وتوقفتا. تبادلنا النظرات لوهلة، ثم غادرتُ المكان مسرعا.
سألتني اليد إذا كان باستطاعتها أن تبقى بعد العمل متصلة بجسمي أثناء الليل لإنها تفتقد الارتباط الجسدي، فلم أمانع. وسألتها ماذا حدث لصاحبها. فقالت إن سفيان بن أمية، عامل الخليفة أبي جعفر المنصور، مزقه إربا إربا، ورمى أعضاءه في تنور مسجور أمامه وهو لا يزال حيا. سكتت اليد، فسألتها كيف نجت إذن؟ فأجابت: نجحتُ في الهرب من الرمي في التنور بالقفز في نهر دجلة. ومن يومها وأنا في الماء. قلت لها: وماذا فعل صاحبك ليستحق هذه الميتة الشنيعة؟ فأجابت ببساطة: أنطق العجماوات. وكان يكتب في ديوان الحاكم. فغضب عليه الخليفة ذات يوم واتهمهُ بالزندقة. سألتها: وماذا أنت فاعلة؟ فقالت: أنا أبحث عن مخرج. وددتُ أن أعرف المزيد منها، وكيف وصلت إلى هنا، لكني أدركت أنها لا تميل إلى الكلام، وفهمت أن ما تريد أن تقوله كانت تفضل أن تكتبه. في هذه الليلة نمت بعمق لأول مرة منذ أسابيع طويلة، وعندما استيقظت وجدت اليد قد كتبت أوراقا جديدة وهي متصلة بجسدي، فالتقطتُ إحداها وقرأت مذهولا:
ثعابين الماء تسري وسط أحراش القصب الكثيفة. يخرج أحدهم من بين العيدان ويزحف فوق الماء سريعا، ثم يعود ويختفي داخلها. كانت السماء صافية، ومن بعيد تلوح ستائر سوداء من آبار النفطة المشتعلة. أربع فتيان انحشروا في قارب معقوف وسط صمت مطبق، لا يقطعه سوى رعد المقاتلات الجوية المارة. انتصب أحد الفتيان وسط القارب وفي يده مجداف طويل، يغرزه في جانب الماء حتى يصل إلى القاع، ثم يسحبه ويغرزه من الجانب الآخر. اقتربوا من جزيرة صغيرة يحيط بها القصب، ورأوا النار تلتهم أكواخها، فأكملوا طريقهم حتى وصلوا إلى كتف من أكتاف الماء تقطعه عيدان البوص. اقتربوا بالقارب ودخلوا خلفه، كانت العيدان تتكاثر بجنون في هذه المنطقة مشكلة متاهة معقدة. أبحروا وسط جثث جواميس نافقة تطفو على السطح، وحطام صواريخ تبرز من الماء. وأكملوا حتى اقتربوا من أكثف نقطة في هذا الدغل، وتوقفوا مختبئين في جوفها صامتين. في اليوم السابق كانت النساء في المدينة تجري وهي تبحث عن أبنائها، والرجال يقفون أمام مكاتب مسؤول المدينة غاضبين. الجنود العائدون من الصحراء يروون الأهوال. أطلقت الشرطة النار، لكن الناس لم تخف، وبقوا في الشوارع. قالوا إنهم يريدون أبناءهم الذين أهلكتهم الحروب، ويريدون حياة كريمة. خرج خلق كثير، وملأوا الشوارع. لكن المسؤول أرسل بتعزيزات كبيرة. كانوا يربطون الشباب ويشدون وثاقهم ويضعون حجرة فوق صدورهم ويلقوهم في الماء. عندما عاد الفتى من المدرسة أمس خبأته أمه لأنهم يمرون على البيوت ويأخذون الشباب. وفي ذلك الصباح أعدت له منديلا مربوطا على بعض الطعام، وقالت له أن يختبأ في الأهوار مع المختبئين لينجو. مر الوقت بطيئا وسط الأحراش، وتصاعدت موجات الصهد. ومن بعيد انشقت السماء عن صوت محرك هادر. ثم ظهرت الطائرة العمودية، وثبتت في قلب السماء. اقتربت الطائرة حتى خاف الفتية أن تسقط فوق رؤوسهم. كان ضجيج محركها يشبه طلقات المدافع. ثم سمعوا الرصاص يلعلع حولهم. تعالت الصرخات من كل مكان. كان يوم الحشر. مر دهر حتى غادرت الطائرة المكان. بعدها غرز الفتى المجداف الرفيع في قلب الماء، ثم خرج القارب المعقوف ببطء. كان الماء داكن اللون عندما خرجوا إلى المياه الواسعة.
٣
يحتاج المرء على الأقل إلى خمس دقائق سيرا لقطع المسافة من واجهة القلعة الغربية المطلة على القناة إلى خلفيتها الشرقية المطلة على النهر. في الاستراحات يسير العمال وهم يثرثرون بأصوات عالية إلى زاوية قصية في الطابق الأرضي تشرف على النهر مباشرة، يأكلون فيها ويدخنون. تحسّن أداء يدي بمرور الأيام، وبدأت في التعود على حياتي الجديدة، التي تتوسط فيها يدٌ مات صاحبها قبل نحو ألف عام بين جسدي وبين العالم الذي ألمسه، ومن دونها ينهار عالمي. وعدتُ أشعر بالأمان وسط زملائي الذين لم يبدر من أحدهم أي ملاحظة، بل كانوا يدعونني إلى بعض طعامهم، ويسألوني عن أحوالي بعد أن رأوني أسقط وسطهم. لكن الجو توتر فجأة، حيث لاحظنا وصول شاحنة خاصة تسبقها عربات حراسة، وأدركنا أنها تحمل القبة الذهبية والكرة والصليب. فعدنا إلى أماكن عملنا بسرعة.
جاء مع القبّة رجال يرتدون اوفرولات عمل ذات لون بني، مختلفة عن تلك الزرقاء التي نرتديها. بدا عليهم العبوس والجدية. وتولوا من فورهم إدارة الموقع وإصدار الأوامر، فأصيب كل من في المكان بالخوف من ارتكاب أي خطأ، إذ بدا من الواضح أن هذه الملائكة والقبة الذهبية التي ستحملها هي جوهرة القلعة التي لا تقدر بثمن. الخطوة الأولى كانت تكليف سائقي الفورك ليفت برفع الملائكة ووضعها فوق قاعدة متينة من الحديد الصلب، على شكل دائرة من العمدان القصيرة المثبتة على قاعدة خرسانية، والملتحمة من أعلى بسوار معدني صلب. وبعدها تُثبت الملائكة فوق هذا السوار المعدني. وزن كل ملاك نحو نصف طن، ومعا سيحملون فوق رؤوسهم نحو ١٠ أطنان هي وزن القبة والكرة وصليب الامبراطورية. وزن العالم. رأيت حياتي تتهاوى أمامي وأنا أتابع عمل زميلي الأول. كانت المهمة شديدة الدقة، تستلزم المناورة في حيز ضيق. شنقوا أول ملاك بحبال عريضة، وعلقوه في شوكة الونش. سار الونش وئيدا والملاك يترنح في الهواء، وأصحاب الأوفرالات البنية يسيرون معه، ويصرخون في السائق بتوجيهاتهم. التقطت الأيادي الملاك المترنح وأرادت تثبيته على القاعدة، لكنه سرعان ما زل، واصطدم بالقاعدة. فتصبب السائق عرقا. ثم أعاد المحاولة مرة أخرى. أنقذني فاضل وكلفني بمهمة إعادة ترتيب صناديق المخزن. قادني إلى هناك، ولاحظت عبوسه. فسألته إذا ما كان على ما يرام، فالتفت إليّ وقال إنه فكر كثيرا في أمري. وتابع: لا يجب أن يستمر هذا الوضع. هذه المرة سلمت الجرّة، لكن من يعرف ماذا سيحدث في المرات القادمة. لا أستطيع أن أغطيك دائما. ثم ثبت عينه في عيني وقال: من الأفضل أن تعيد اليد من حيث أتت. إنها قادمة من عالم آخر، ولا يجب أن تبقى في عالمك. هي سبب مشكلتك، وليست حلها. أنت أسير لديها، وعندما تتخلص منها ستعود لك يدك.
استغرق العمل على تثبيت الملائكة أسبوعا بأكمله، إذ لم يكن يُسمح لوردية الليل بإكمال المهمة لدقتها. خلال هذا الأسبوع كنت أذهب فور وصولي القلعة إلى المخزن، وأجلس في الفورك ليفت أرفع صناديق وأنزل أخرى. وأفكر فيما قاله لي فاضل. نحن أصدقاء منذ سنوات صباي. كان معي في ذلك القارب المعقوف، وخرجنا معا من العراق، ونحن لم نصل إلى العشرين بعد. أنا مدين له بالكثير، فقد كان في عوني دائما ونحن ننتقل من مدينة إلى أخرى، وحتى عندما افترقت طرقنا لم يبخل عليّ بالمساعدة. وبفضله عثرت على هذا العمل الذي أشغله منذ ثلاث سنوات، وانتظمت بسببه أموري بعد تشردي في لايبزج. حياته استقرت الآن وهو في منتصف الأربعينات بعد تعب وكدّ، أما حياتي فلا تزال على الحافة. لعله لذلك لا يستطيع تقبل المسار الغريب الذي تسير فيه حياتي الآن. لكني لا أملك رفاهية أن ألقي بالقشة التي أعادتني إلى حياتي. حياةٌ مرقّعة أفضل من أخرى معدومة. كما أني تعودت على اليد وأصبحت جزءا مني.
وفي أحد الأيام عندما كنت أستعد لمغادرة الموقع اقتربت مني الفتاتان اللتان سبق ورأيتهما. وبادرتني إحداهما قائلة: نحتاج لمساعدتك. فقلت: ماذا تحتجن؟ ردت الأخرى: نحتاج مفتاح ونشك. فسألتُ مستغربا: لماذا؟ فقالت الأولى: نحتاج الونش لكي نلقي بالقبة الذهبية إلى الماء، لأن هذا المبنى يجب ألا يكتمل. أُسقط في يدي، وظننت أني أخطأت الفهم. وأكملت الفتاة: هذه هي فرصتنا الأخيرة قبل أن يتم تثبيتها. أعطنا مفتاح ونشك. فزعقت فيهما: من أنتما؟ أنا لم أركما من قبل تعملان هنا؟ فردت إحداهما: أنا السعادة، وقالت الأخرى: أنا قلّة الحيلة. حلّ الصمت وظلت عيوننا معلقة. ثم قالت قلّة الحيلة: لقد وقع الموتى في الأسر. ما زالوا يعملون، وقتلتهم يثرون. لكنهم يقاومون. وقالت السعادة: هل تعرف أن الكثيرين قتلوا على أبواب قلعة عائلة هوهن زولرن الإقطاعية في ثورة ١٨٤٨ التي تعيدون بنائها؟ هل تعرف أن ما تبنونه سيكون مقرا لمتحف يعرض رفات قديمة مسروقة؟ سرقها مستعمرون وتجار آثار. بقيت ذاهلا لا أدري ماذا أقول، ثم قطعت قلةُ الحيلة الصمتَ قائلة: المعركة لا تزال دائرة هناك، والموتى لا يزالون يبحثون عن مخرج. هل تفهم؟ فأجبت: لا، لا أفهم، ولا أريد أن أفهم، وبالتأكيد لن أعطيكما مفتاحي. وتركتهما. عندما وصلت إلى البيت سألتني اليد عن الحوار الذي دار بيني وبين الفتاتين، فترجمت لها ملخصه، وأنا لا أزال مندهشا مما حدث.
استمر العمل ثلاثة أيام أخرى حتى اكتمل تثبيت القبّة الذهبية فوق رؤوس الملائكة، وفوقها الكرة والصليب. ولم أعد مضطرا للاختباء في موقع المخزن. وعادت الأرقام تملأ رأسي. ما أن أبقى وحدي حتى أعود أفكر في رقم تريليون المهول، وحدة المساعدات النقدية التي تقدم هذه الأيام، بعد أن كان وحدة الديون. قيمة لا يمكنني فهم أبعادها مهما فعلت. أتخيله غيمة عظيمة تسد الأفق كلما فكرت فيه وأنا أقود الونش. أظل أتضاءل تحت ضغط تلك الغيمة البيضاء لأصبح كُرية دم حمراء، أو قطرة في بحر، أو حبة رمل. مجرد صفر من الأصفار. دارت الوردية، وجاء وقت تسليمها لوردية الليل. فذهبت أغير ملابسي واستعد للمغادرة. لكني قبل أن أترك مكاني بجوار الونش، رأيت السعادة وقلة الحيلة أمامي ثانية. فابتعدت عنهما، لكنهما أوقفاني، وقالت قلّة الحيلة: هذه هي آخر فرصة. غدا ستُرفع القبّة الذهبية، وتُثبت على قمة القلعة. إذا انطبق السقف على الموتى مرة أخرى، سيعلقون هناك إلى الأبد ولن يتمكنوا من الفرار أبدا. فقلت لها: أنتما لا تعرفان شيئا عن حياتي. مشاكلي تكفيني ولا أحتاج لمشاكل موتاكم أيضا. لماذا لا تسألان سائق ونش آخر؟ وفي هذه اللحظة امتدت يدي في جيبي وأمسكت بالمفتاح وأعطته لقلّة الحيلة، التي التقطته وقفزت من فورها إلى الونش قائلة: شكرا. حدث ذلك بسرعة تفوق قدرتي على الاستيعاب، رفعت اليد وأنا غير مصدق وقلت بحنق: كيف تفعلين ذلك! سوف يرفدونني. أدارت قلّة الحيلة المحرك وانطلقت بالونش نحو قاعدة الملائكة. حاولت أن أجري خلفها لكن اليد أمسكت بخزان المياه بإصرار، مانعةً إياي من أن أتحرك.
كان واضحا أن السعادة وقلّة الحيلة درستا المكان جيدا، وأن قلّة الحيلة قائدة ماهرة. فقد غرزت شوكة الونش في قاعدة الملائكة وسارت بحذر حتى السور المشرف على القناة. أما السعادة فقد كانت تنظر حولها بعين الصقر، وتنقض في اللحظة المناسبة. أحدثت فتحة في السور منتهزةً الفوضى المحيطة. وأزاحت بسرعة كل من حاول يعترض طريق الونش. فاقت حمولة القاعدة قدرة الونش، لكن قلّة الحيلة عرفت كيف تسير به برغم ذلك. واتجهت به إلى حافة الماء، لكن القاعدة مالت في الطريق وكادت أن تفلت، فأنزلتها قلّة الحيلة وغرزت الشوكة في جانب آخر وأكملت طريقها، والسعادة تسير بجوار الونش. ارتجت الملائكة بفعل صدمات الطريق المتتالية. وفجأة ترنح أحد الملائكة وانفصل عن القاعدة المثبت فوقها، وهوى في اتجاه الأرض. وكانت هذه هي اللحظة التي فقدت فيها صوابي. فقد انغرس ريش الملاك المعدني في قدم السعادة، وصدرت عنها صرخة مرعبة. تجمد كل من في موقع العمل بفعلها. ثم عمّت الفوضى، وهرول العمال في كل اتجاه، حتى وصلوا إلى السعادة الملقاة على الأرض والملاك الساقط فوقها، وقلّة الحيلة التي تقف بجوارها محاولةً سدى رفع الملاك. ظل صراخ السعادة يمزق نياط القلوب، ويملأ ردهات القلعة الخالية.
وأخيرا استطعتُ أن أفك يدي عن حديد الخزان، واتجهت بسرعة نحو الونش. غاب عني عقلي، لكني كنت أعرف ما الذي يتعين عليّ أن أفعله. ربطت بسرعة حبلا حول رقبة الملاك المغروز في قدم السعادة، وقفزتُ في الونش. أدرته وأخذت يدي تجري على المقابض. مع كل سنتيمتر يصعد فيه الملاك بريشه المدبب كانت صرخات السعادة تزداد حدة وألما. ظلت تعوي حتى صمتت فجأة. كانت السقطة مريعة، وعندما ارتفع الملاك أخيرا عن الأرض، رأينا قدم السعادة عالقة في ريش جناحه، ومبتورة عن ساقها. فردة حذاء رياضي تبرز منها عظامها وتتدلى منها نسائر اللحم. صرخ الجميع، وأُضيئت أنوار إضافية. تعلقت عيناي بقدم الفتاة المدماة، كنت أريد أن أوقف المحرك وأقفز لكي انتشل القدم، كنت أريد أن ينتهي هذا الألم الذي لا نهاية له. لكني وجدت الونش يتجه نحو الحاجز الفاصل عن ماء القناة، وكانت يدي تحرك المقابض بسرعة. نزلتْ دون إرادتي على مقبض الحركة الرأسية وأمالته، فاندفع الملاك بالقصور الذاتي وسقط في الماء ومعه قدم السعادة.
حبست نَفَسي وسحبت جسمي نحو القاع وأنا أخوض في ظلام دامس، حتى رأيت عيني الملاك يلمعان في العمق، فاتجهت إلى مصدر الضوء الخافت. وبقيت لحظات أدور حول الملاك وألمسه، لكني لم أجد قدم السعادة. أنا متأكد أنها كانت مرشوقة في الجناح من هذه الناحية، لكن لا أثر لها الآن. ظللت أدور وأدور حول الملاك، ثم ضاق نَفَسي فعدت تدريجيا إلى السطح. وما أن خرج رأسي من الماء حتى وجدت الأضواء كلها مسلطة عليّ. ساعدني بعض رجال الشرطة على الخروج من المياه، ثم أنهضاني وأمسكا بذراعي. رأيت رجال الإسعاف يأخذون السعادة على محفّة وهي مغشية عليها. ثم اقتادتني الشرطة مع قلّة الحيلة إلى عرباتهم. سرنا صامتين، وفي الطريق دفعني الشرطي بقبضته ذات القفاز البلاستيكي، والتي تحيط بذراعي، فشعرت بدبيب نمل. نظرت إلى ذراعي بدهشة، وشيئا فشيئا أدركت أيضا أن يدي القديمة عادت إلى الحياة، ثم أدركت أيضا أن يد ابن المقفع لم تخرج معي من الماء. تحسست موضعها لأتأكد. لكن لم يكن لها أثر. ولأول مرة منذ أسابيع طويلة شعرت بذراعي. كان هناك منمّلا تحت قبضة الشرطي، وهو يقودني بينما يقطر الماء مني. ثم حانت من قلّة الحيلة التفاتة، فالتقت عينانا لوهلة قبل أن يُقاد كل منا إلى سيارة شرطة مختلفة.
هيثم الورداني. كاتب ومترجم. صدرت له حديثا مجموعة قصصية بعنوان ما لا يمكن إصلاحه، وحصلت على جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب عام ٢٠٢١ عن أفضل مجموعة قصصية. كما صدر له مؤخرا كتاب النوم، والذي يقدم بحثا أدبيا حول جدل النوم واليقظة، والإمكانات الجمالية والسياسية والنظرية التي ينطوي عليها هذا الجدل، لاسيما في لحظات ما بعد الثورات المجهضة.
This short story was commissioned with the generous support of Goethe-Institut Lebanon.